القاهرة – (رياليست عربي): تشهد منطقة الشرق الإفريقي حالة من الترقب الحذر لتطورات مسألة سد النهضة بين دولة المنبع (إثيوبيا) من جهة، ودولة الممر (السودان)، ودولة المصب (مصر) من جهةٍ أخرى.
استفاقت القارة الإفريقية على زلزال سياسي خطير أطاح بنظامين من أنظمة الحكم العتيدة في الشمال الإفريقي، في مصر وتونس، وجرت تكهنات بأن تلحق به دولاً أخرى. تلقفت الأقطار المختلفة في العالم الإنذارات الحمراء، جرّاء هذا الزلزال الذي سمّي بـ “الربيع العربي”، كلٍّ حسب مصلحته وحساباته السياسية مع الإقليم.
كان لكل قطر في العالم موقفه الخاص الذي بنى عليه رد فعله تجاه دول الربيع العربي، فمثلاً: الولايات المتحدة الأمريكية أيدت ودعمت، والاتحاد الأوروبي أعرب عن القلق تحسباً من خروج الأمور عن السيطرة، التي قد تؤدي إلى زيادة الهجرة غير الشرعية إلى بلاده القريبة من الإقليم، أما دول الخليج فواجهت تحدي حقيقي في مواجهة عدوى الثورة في بلادها الملكية، لكن دولة بعينها كانت صاحبة رد الفعل الخرساني الأسرع، إثيوبيا منبع النيل الرئيسي أعلنت عن مشروع أضخم سد في إفريقيا، مقتنصة الظرف التاريخي الأصعب الذي كانت تعيشه مصر. مصر الدولة الأقوى عسكرياً واستراتيجياً وذات النفوذ الدولي الممتد داخل القارة الإفريقية وخارجها، فوجئت في أبريل/نيسان من العام2011 بإعلان إثيوبيا تشييدها لسد الألفية وما عرف فيما بعد بـ”سد النهضة”.
وبناءً عليه تشهد المنطقة تسييساً للموارد المائية وتسليحها غير المسبوق، كجزء من التحديات الرئيسة التي تواجهها البلدان المتشارِكة في مورد مائي دولي عابر للحدود(1)، مثل إقليم حوض النيل في إطار تصارعي من التفاعلات الهيدروبوليتيكية المحركة للعلاقات بين دول حوض النهر. تعتمد منطقة حوض النيل على مواردها المائية، التي تعد بمثابة شريان الحياة لشعوب الدول المتشاطئة على مياه نهر النيل، نظراً لاعتماد اقتصاديات دول الحوض الرئيسية على النهر في الزراعة والثروة السمكية وتوليد الطاقة الكهربائية.
يستمد الموضوع أهميته من كونه ذي أبعاد إقليمية ودولية ممتدة، لها علاقة بالأمن القومي المائي لدول حوض نهر النيل جمعاء. لا يخفى على أحد أن أغلب دول الحوض تراقب تطورات الأزمة بين أطرافها الحاليين بتحفزاً شديداً، أملاً في الوصول إلى آلية تنتج عن الصراع حول السد تمكنها من إلغاء الاتفاقيات التاريخية المنظمة في السابق لعملية تقاسم المياه في النهر منذ فترة الاستعمار. فالحكومة المصرية ترفع مبدأ “الحقوق التاريخية المكتسبة”، وتستند إلى اتفاقها مع السودان عام 1959، في حين تشهر إثيوبيا سيف “الحق في التنمية”، وترفض أن تلزمها أي معاهدات ترى فيها تعطيل لهذا الحق.
أولاً، شرارة الأزمة
الوضع المائي المأزوم لدول حوض النيل، والخلاف القائم حول سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا، لم يظهر مع إعلان الأخيرة عن سدها في إبريل/نيسان 2011، سبقت تلك الحادثة صولات وجولات في أروقة الاجتماعات الإقليمية بين دول الحوض، ولكن قبل أن نبدأ في شرح بداية الأزمة، لابد لنا من التطرق إلى الإطار القانوني الذي كان يحكم دول حوض النيل الثلاث، وهو أحد أركان النزاع الحالي، والمقصود هو الاتفاقيات التاريخية التي تتمسك بها مصر والسودان وترفضها إثيوبيا. نذكر منها:
معاهدة 1902
في 1902 تم التوقيع في أديس أبابا على معاهدة بين بريطانيا والإمبراطورية الإثيوبية في حضور الإمبراطور “منليك الثاني” إمبراطور إثيوبيا، لترسيم الحدود بينها وبين السودان. وتنص المادة الثالثة تحديداً على تنظيم استغلال مياه النيل الأزرق وبحيرة تانا ونهر السوباط، وضرورة الإخطار المسبق قبل الشروع في إنشاء أي مشروعات من جانب إثيوبيا من شأنها أن تؤثر على انسياب المياه. وفي المقابل منحت بريطانيا للإمبراطور الإثيوبي إقليم بني شنقول السوداني، لعلمها برغبته في التوسع الحدودي على حساب الجيران، كعادة الأباطرة الإثيوبيون جمعياً.(2)
اتفاقية عام 1959
جاءت هذه الاتفاقية بين مصر والسودان منفردتين لتنص على حصة مصر من المياه بـ 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، وحصة السودان بـ 18.5 مليار متر مكعب، بعد الانتهاء من تشييد السد العالي، ونظراً لأهمية الاتفاقيات التاريخية لمصر والسودان من مياه النيل، تُصِر الحكومتان المصرية والسودانية على ضرورة تضمين بنود هذه الاتفاقيات في مراحل التفاوض على أية اتفاقية جديدة تشارك في تنظم استخدامات مياه النهر. غير أن إثيوبيا تقابله بالرفض القاطع، معللة ذلك، بأن هذه الاتفاقيات قد تم توقيعها في الحقبة الاستعمارية ولا تمثل إرادة شعبها، وأنها لم تُراع احتياجات دولة المنبع.
تعالت الأصوات داخل دول المنابع برفض الاتفاقيات التاريخية مع إعلان مبدأ الزعيم التنزاني جوليوس نيريري والذي سمّي بـ “مبادئ نيريري الأربعة” والتي يخصنا فيها مبدأ إسقاط كافة معاهدات فترة الاستعمار وخصوصاً تلك التي تخص نهر النيل لتصبح غير ملزمة لدول المنابع التي لم تكن وقت توقيعها ذات سيادة. لاقى إعلان نيريري هوى لدى دول المنابع، لكن لم تقوم بتنفيذ على النهر واكتفت بالتلويح برغبتها في إعادة صياغة لتلك الاتفاقيات. كانت مصر على مدار تاريخها ذات حضور واسع وتأثير ملموس، مكّنها من الحفاظ على حصتها التاريخية في المياه حتى عادت تتعالى الأصوات من جديد في التسعينات من دول المنابع مدفوعة من إثيوبيا.
أما فتيل الأزمة الحقيقية قد بدأ زرعه في الإقليم مع دخول الألفية الجديدة، حيث تضاعف نشاط الدعاية العدائية الإثيوبية المائية، للضغط على مصر للموافقة على اتفاق جديد يتعلق بتقسيم المياه وتنظيم استخدامها، ولجأت دول الحوض بقيادة إثيوبيا إلى الانفراد بإبرام اتفاق إطاري للتعاون في حوض نهر النيل بعد توقيع ما سميت بـ “إتفاقية عنتيبي”.
(Agreement On the Nile River Basin Cooperative Framework)
رفضت مصر والسودان التوقيع على الاتفاقية التي كانت في مايو/أيار العام 2010 في مدينة عنتيبي الأوغندية، بسبب بعض الخلافات الموجودة في المادة /14 ب/ والتي تتعلق بحصتهما من المياه ومفهوم الأمن المائي والإخطار المسبق لإنشاء السدود.(3)
لقد سعت إثيوبيا، بموجب إتفاقية عنتيبي، إلى تجريد مصر من امتيازاتها في مياه النيل، أبرزها حق الفيتو في منع إقامة أي مشروع على النهر خارج أراضيها. واعتبرت اتفاقية 2010 شرارة أزمة بناء سد النهضة الإثيوبي. فقد أبدت مصر رفضها لاستكمال بناء السد الإثيوبي إلا بعد قيام لجنة فنية مختصة بدراسة التصميمات وآثار المشروع، وبالفعل شُكِّلت لجنة من خبراء فنيين من الدول الثلاث (إثيوبيا، والسودان، ومصر) بالإضافة إلى خبراء دوليين سنة 2012. تجاهلت إثيوبيا ما كان يجري على المسار التفاوضي، ولكنها مضت مسرعة في بناء سدها.(4)
ويدور الخلاف الراهِن في المقام الأول حول الإطار الزمني الذي يجب أن يُملأ فيه السد. ففيما تضغط الحكومة المصرية من أجل ملء بطيء يمتد بين 12 و21 سنة لتجنّب النقص الحاد في تدفقات المياه، تسعى الحكومة الإثيوبية لتحقيق ذلك في غضون ست سنوات حتى تتمكن من تشغيل التوربينات لتوليد الطاقة بشكل أسرع. أما السودان، فشارك في المفاوضات بموقف محايدٍ مدة 9 سنوات كاملة إلى أن تلمس خطر السد على أمنه القومي، وحدث بسياسة الخرطوم سيولة أسرع في التفاعلات مؤخراً، أدت إلى تحرك السودان إلى التحالف مع الموقف المصري (5) في مواجهة التعنت الإثيوبي.
وفي سبيل الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم حول استخدام مياه النيل وتحقيق مصالح مشتركة، دخلت الدول الثلاث في 17 جولة تفاوضية مقسمة على ستة مراحل وقعت خلالها مصر والسودان وإثيوبيا في الخرطوم سنة 2015 على “اتفاق إعلان المبادئ” الذي أعطى قبلة الحياة لمشروعها الضخم وسمح لها بالحصول على التمويلات المطلوبة للانتهاء من عملية البناء والتشييد، كخطوة أولى لإنجاز الاتفاق النهائي المأمول ونستعرض هنا تلك المراحل:
10 سنوات في المفاوضات
لم تكن فكرة السد مقبولة لدى المصريين في بادئ الأمر خصوصاً مع إعلان إثيوبيا عن سدها في خضم أحداث ثورة 25 يناير التي كانت تحدث في القاهرة. سادت تلك الثورة، مرحلة من غياب السلطة وانعدام الاستقرار في الدولة المركزية الأقدم والأكبر في المنطقة. لم تكن القاهرة مستعدة لمواجهة تهديداً من هذا النوع واعتبرته شأن محل تفاوض فسارت في طريق طويل من التفاوض، رغبة منها في الحفاظ على حقوقها التاريخية في مياه النيل، دون الحاجة لتصعيد قد يحرمها من التمتع بالشراكة الإفريقية المنسجمة داخل القارة.
أما السودان، فلم تكن علاقاته بمصر تمضي على وتيرة إيجابية مستقرة، كطابع العلاقات بين مصر والسودان منذ حصولها على الاستقلال عن مصر في 1956، بينما كانت على توافق كامل مع إثيوبيا من قبل الإعلان عن السد. حدثت مراحل فتور بين دولتي الممر والمصب، لم تكن العلاقات المصرية – السودانية فيها، تخلو من الملفات الخلافية وزاد عليها التباعد في الرؤى لدى القياديين في القاهرة والخرطوم بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في أديس أبابا في عام 1995 والتي أشير إلى الرئيس السوداني السابق بالضلوع في تنفيذها وإيواء مطلوبين أمنياً للقاهرة. وكان من المقبول لدى الإدارة السودانية الترحيب بالسد الإثيوبي الذي كما تم التسويق له بالخرطوم، سيحميها من خطر الفيضان ويوفر استدامة الكهرباء.
مراحل التفاوض الـ 6
منذ ابتداء مناورات “المفاوضات” اختارت مصر أن تخوض جولات عديدة جرت في بحر للمفاوضات شديد التلاطم. مرت المفاوضات بست مراحل:
المرحلة الأولى:
بدأت أولى تلك المراحل التفاوضية في الفترة من مايو/أيار 2011 حتى مايو/أيار 2013، تمت فيها مراجعة الدراسات الهندسية الإثيوبية لـسد النهضة، وقامت بتقييم الضرر على دولتي المصب، انتهت تلك المرحلة بصدور تقرير لجنة الخبراء الدوليين في مايو/أيار 2013 وأدان التقرير التهور الإثيوبي لقيامه بإنشاء سد ضخم بدراسات أولية ضعيفة لا ترقى إلى مستواه وإمكانياته المعلن عنها.
المرحلة الثانية:
بدأت في يونيو/حزيران 2013، واستمرت حتى يناير/كانون الثاني 2014، وكانت تلك المفاوضات تدور حول تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدوليين والتي انتهت بإعلان تعثر وفشل اجتماع الخرطوم في يناير/كانون الثاني 2014. فشل اجتماع الخرطوم في التوصل لأي أرضية مشتركة للتفاهم بداية من فشل الاتفاق حول تشكيل لجنة من الخبراء الدوليين لمتابعة المشروع، وصولاً لرفض الكشف عن الدراسات الفنية النهائية للسد بسبب إصرار إثيوبيا على عرقلة تشكيل لجان التفاوض الفنية. وكان الرفض الإثيوبي للكشف عن دراسات أمان السد ملازم معظم مراحل التفاوض.
المرحلة الثالثة:
لتبدأ المرحلة الثالثة من المفاوضات في أغسطس/آب 2014 وعقب تولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سدة الحكم مباشرة، وانتهت في نوفمبر/تشرين الثاني 2017. كانت بداية انطلاق تلك الجولة عقب لقاء بين الرئيس السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ميريام ديسالين، على هامش قمة الاتحاد الإفريقي التي أقيمت في ملابو بغينيا الاستوائية. تم الاتفاق في ذلك اللقاء، على مواصلة المفاوضات وإجراء دراسات مائية وبيئية واقتصادية واجتماعية، لكن دون إجراء دراسات على هندسة السد لإصرار إثيوبيا على القيام بها منفردة. تغاضت مصر والسودان عن التشبث الإثيوبي، بغية في إحداث ثغرة تفاوضية لكي تنفذ منها الدبلوماسية طويلة الأجل بعدها. توجت تلك المرحلة بتوقيع إعلان المبادئ لسد النهضة في الخرطوم مارس/آذار 2015. وتعتبر المرحلة الثالثة هي الوحيدة التي أتت بنتيجة ملموسة في صورة إعلان المبادئ والذي تلخصت بنوده في:
- مبدأ التعاون
على أساس التفاهم المشترك، المنفعة المشتركة، حسن النوايا، المكاسب للجميع، ومبادئ القانون الدولي. التعاون في فهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب بمختلف مناحيها.
- مبدأ التنمية، التكامل الإقليمي والاستدامة
الغرض من سد النهضة هو توليد الطاقة، المساهمة في التنمية الاقتصادية، الترويج للتعاون عبر الحدود والتكامل الإقليمي.
- مبدأ عدم التسبب في الضرر:
تتخذ الدول الثلاث كافة الإجراءات المناسبة لتجنب التسبب في ضرر ذي شأن خلال استخدامها للنيل الأزرق/ النهر الرئيسي.
ففي حالة حدوث ضرر ذي شأن لإحدى الدول، فان الدولة المتسببة في إحداث هذا الضرر عليها، في غياب اتفاق حول هذا الفعل، اتخاذ كافة الإجراءات بالتنسيق مع الدولة المتضررة لتخفيف أو منع هذا الضرر، ومناقشة مسألة التعويض كلما كان ذلك مناسباً.
- مبدأ الاستخدام المنصف والمناسب:
سوف تستخدم الدول الثلاث مواردها المائية المشتركة في أقاليمها بأسلوب منصف لضمان استخدامهم المنصف والمناسب، سوف تأخذ الدول الثلاث في الاعتبار كافة العناصر الاسترشادية ذات الصلة الواردة أدناه، وليس على سبيل الحصر:
أ- العناصر الجغرافية، والجغرافية المائية، والمائية، والمناخية، والبيئية وباقي العناصر ذات الصفة الطبيعية.
ب- الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لدول الحوض المعنية.
جـ- السكان الذين يعتمدون على الموارد المائية في كل دولة من دول الحوض.
د- تأثيرات استخدام أو استخدامات الموارد المائية في إحدى دول الحوض على دول الحوض الأخرى.
هـ- الاستخدامات الحالية والمحتملة للموارد المائية.
و- عوامل الحفاظ والحماية والتنمية واقتصاديات استخدام الموارد المائية، وتكلفة الإجراءات المتخذة في هذا الشأن.
ز- مدى توفر البدائل، ذات القيمة المقارنة، لاستخدام مخطط أو محدد.
حـ- مدى مساهمة كل دولة من دول الحوض في نظام نهر النيل.
طـ- امتداد ونسبة مساحة الحوض داخل إقليم كل دولة من دول الحوض.
- مبدأ التعاون في الملء الأول وإدارة السد:
تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، واحترام المخرجات النهائية للتقرير الختامي للجنة الثلاثية للخبراء حول الدراسات الموصي بها في التقرير النهائي للجنة الخبراء الدولية خلال المراحل المختلفة للمشروع.
- مبدأ بناء الثقة:
سيتم إعطاء دول المصب الأولوية في شراء الطاقة المولدة من سد النهضة.
- مبدأ تبادل المعلومات والبيانات:
توفر كل من مصر وإثيوبيا والسودان البيانات والمعلومات اللازمة لإجراء الدراسات المشتركة للجنة الخبراء الوطنين، وذلك بروح حسن النية وفي التوقيت الملائم.
- مبدأ أمان السد:
تقدر الدول الثلاث الجهود التي بذلتها أثيوبيا حتى الآن لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية المتعلقة بأمان السد، سوف تستكمل أثيوبيا، بحسن نية، التنفيذ الكامل للتوصيات الخاصة بأمان السد الواردة في تقرير لجنة الخبراء الدولية.
- مبدأ السيادة ووحدة إقليم الدولة:
تتعاون الدول الثلاث على أساس السيادة المتساوية، وحدة إقليم الدولة، المنفعة المشتركة وحسن النوايا، بهدف تحقيق الاستخدام الأمثل والحماية المناسبة للنهر.
- مبدأ التسوية السلمية للمنازعات:
تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النوايا. إذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول، رئيس الحكومة.
حدثت خلال الفترة ما بعد التوقيع على الاتفاق الذي كان مصنف على أنه بمثابة المعجزة، خلافات حول المكاتب الاستشارية التي كان من المقرر أن تقوم بعمل تقارير عن السد وعوامل أمانه، أعقبها وبشكل مفاجئ انسحاب المكتب الهولندي الذى قامت مصر بترشيحه لعدم قبوله شروط إثيوبيا للقيام بالدراسات المطلوبة لذات الشأن. تخطت الدول الثلاث ذلك الانسحاب وتغافلت مصر عن العناد الإثيوبي، وبدأ مكتب فرنسي في إعداد التقرير المبدئي، الذي اعترضت عليه مصر في البداية ثم وافقت بعد ذلك، إلا أن المفاجأة الحقيقية جاءت مع اعتراض إثيوبيا والسودان مجتمعتان عليه، لتنتهي تلك المرحلة من المفاوضات بالفشل وتعلن مصر في نوفمبر/ تشرين الثاني2017 انتهاء المفاوضات بعد تعثرها رسمياً.
المرحلة الرابعة:
مرحلة المفاوضات الموسعة والتي شملت لجان ثلاثية وسداسية وتساعية. انطلقت المرحلة الرابعة من المفاوضات في ديسمبر/كانون الأول 2017 وتضمنت تفاوضاً على عدة مستويات شارك فيها وزراء الري والخارجية ورؤساء المخابرات، وتشكلت لجان عدة، ثلاثية وسداسية وتساعية، ولكن مع استمرار التعنت الإثيوبي تم إعلان فشل المفاوضات، عقب اجتماع عقد في القاهرة أكتوبر/،تشرين الأول 2019، تم الإعلان فيه عن وصول المفاوضات إلى طريق النهاية وتعالت التصريحات من الجانبين المصري والإثيوبي بأملهم في المضي في مفاوضات جادة والتأكيد على أن التفاوض هو الحل الأمثل لدى الطرفين.
المرحلة الخامسة:
انطلقت المرحلة الخامسة من المفاوضات، حيث طلبت مصر تنفيذ المبدأ العاشر من اتفاقية إعلان المبادئ لسد النهضة بمشاركة وسيط دولي، ومع ذلك إثيوبيا رفضت المشاركة في أي وساطة، ولكن في القمة الروسية الإفريقية التي عقدت في سوتشي، أكتوبر/تشرين الأول 2019 بين الرئيس السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ترددت الأنباء عن رغبة روسيا الدخول كوسيط، فتداركت واشنطن حدوث ذلك بين حليفتيها الأكبر في إفريقيا وأعلنت واشنطن دعمها للدول الثلاث في السعي للتوصل لاتفاق واستعدادها للوساطة.
كسر جمود مفاوضات سد النهضة
مع ترحيبها بعقد اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بالعاصمة الأميركية ورحبت الدول الثلاث بذلك أيضاً، ومضت المفاوضات برعاية وزارة الخزانة الأميركية وبحضور البنك الدولي وبرعاية من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. واصلت اللجان الفنية اجتماعاتها في القاهرة وأديس ابابا والخرطوم وواشنطن على مدار أربعة أشهر، للتوصل للتوافق حول قواعد الملء والتشغيل حتى صدر في منتصف فبراير/شباط 2020 ببيان مشترك عن الدول الثلاث أشار إلى توصل الوزراء إلى اتفاق حول الملء والتشغيل في سنوات الجفاف والجفاف الممتد، وهو ما كان سيتم صياغته في اتفاق قانوني والتوقيع عليه في واشنطن بعد أيام.
كانت نهاية هذه الجولة في 27 فبراير/شباط 2020 مكتوبة بانسحاب إثيوبيا من المفاوضات بالرغم أن مسودة الاتفاق تمت صياغتها كاملة بناءً على الأجندة الإثيوبية وبخط اليد الإثيوبي كما ذكر المراقبون. وقعت مصر بالأحرف الأولى على تلك المسودة، بينما أحجمت السودان عن التوقيع، أغلب الظن لحاجتها لمزيد من التشاور مع حليفتها المنسحبة. فضل السودان حتى المرحلة الخامسة من المفاوضات لعب دور “الطرف الوسيط”، بالرغم من خطورة المنطقة الرمادية التي كانت تضعف مواقفه أمام الموقف الإثيوبي والموقف المصري أيضاً، إلا أن الانسحاب الإثيوبي تسبب له في استفاقة سياسية متأخرة بعد 9 سنوات من الإرتكان إلى دور باهت لا يليق بصاحب مصلحة مصيرية أصيل.
المرحلة السادسة:
إعادة التموضع المصري – السوداني والحرب الإثيوبية على الجميع
إعلان فشل الاتحاد الإفريقي:
بعد العودة من واشنطن مباشرة ،استطاعت القاهرة استصدار قرار من جامعة الدول العربية بشأن السد لم تشارك الخرطوم في صياغته وتحفظت عليه علناً، هدفه أن يؤكد على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل ورحب بالاتفاق الذي كان مزمع في واشنطن. أعلن هذا القرار الأمين العام للجامعة في ختام الدورة الـ 153 لمجلس جامعة الدول العربية في 4 مارس/آذار 2020. و أصدرت الخرطوم بياناً من وزارة الخارجية السودانية بشأن تحفُظها على القرار العربي حول سد النهضة، بينما أكد المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، السفير أحمد حافظ، أن مصر قامت بموافاة المندوبية الدائمة للسودان بجامعة الدول العربية بمشروع القرار مسبقاً، وتلقت ما يفيد استلام النص كتابياً. استجاب الوفد المصري إلى طلب السودان بحذف اسمه من مشروع القرار(6). كانت السودان مازالت تراهن على الوعود الإثيوبية، ضاربة بهذا الاعتراض أمرين شديدي الأهمية: أولاً، مصلحتها في المحافظة على حصتها من مياه النيل وأمانها المائي والقومي، وثانياً، تحديها لانتمائها العربي بإعلان انحيازها إلى الوجهة الإثيوبية بكل السبل.
لم يلبث أن عاد الأطراف الثلاثة إلى بلادهم، بعد جولة أخيرة باءت بخيبة أمل كبيرة، حتى باغتت إثيوبيا السودان بهجوم مسلح على الحدود في منطقة الفشقة في مارس/آذار، أي بعد بضعة أيام من تركها الخرطوم منفردة في واشنطن تواجه رهانها الخاسر على أديس أبابا أمام الوسطاء الدوليين وأمام شعبها. ساء الأمر بسقوط ضحايا من المزارعين السودانيين المدنيين، لحقهم شهداء من الجيش السوداني أيضاً، على يد عصابات النفتة الأمهرية المدعومة من الجيش الإثيوبي بالسلاح الثقيل. كانت تلك الممارسات هي نقطة إعادة التموضع للموقف السوداني من “الطرف الوسيط” إلى “الطرف الأصيل”.(7)
حركت مصر المياه الراكدة في بحر المفاوضات في يونيو/حزيران 2020 وتقدمت بطلب إلى مجلس الأمن، في إطار بند جدول الأعمال المسمى بـ”السلم والأمن في أفريقيا”، للتباحث في شأن سد النهضة الإثيوبي، داعية فيه إلى التدخل من أجل التأكيد على أهمية مواصلة التفاوض، للتوصل إلى حل عادل لقضية سد النهضة، ومنع اتخاذ أية إجراءات أحادية قد يكون من شأنها وأد فرص التوصل إلى اتفاق، ولجأت مصر إلى مجلس الأمن استناداً إلى الفقرة الأولى من المادة /35/ من ميثاق الأمم المتحدة، التي تسمح لكل عضو من أعضاء الأمم المتحدة أن يخطر مجلس الأمن أو الجمعية العمومية بأي نزاع أو موقف يمكنه أن يعرض للخطر.(8)
وعادت القاهرة مرة أخرى إلى جامعة الدول العربية واستطاعت الحصول على قرار بالتضامن معها، إذ أصدرت جامعة الدول العربية، في دورتها غير العادية التي عقدت في 23 يونيو/حزيران 2020 ، قراراً بشأن سد النهضة الإثيوبي، أكدت فيه أن الأمن المائي لمصر والسودان معاً هذه المرة “جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي”، مؤكدة على ضرورة ايقاف إثيوبيا عن البدء في ملء السد دون التوصل إلى اتفاق مع دولتي المصب حول قواعد ملء وتشغيل السد لما يمثله هذا الإجراء من خرق صارخ لاتفاقية إعلان المبادئ المبرم بين الدول الثلاث. كما حث القرار على تشكيل لجنة لمتابعة تطورات الملف والتنسيق مع مجلس الأمن بالأمم المتحدة حول كافة تطورات الموضوع على أن تتألف عضويتها من الأردن والسعودية والمغرب والعراق والأمانة العامة.(9)
وعادت الدول الثلاث في يوليو/تموز 2020 إلى استئناف التفاوض برعاية الاتحاد الإفريقي، وتلخصت النقاط الخلافية حول عملية تشغيل وملء السد في فترة الجفاف، والجفاف الممتد، ومسألة الاعتراف بالاتفاقيات السابقة لتوزيع حصص المياه، بالإضافة إلى إشكالية غموض معامل أمان السد، والآثار البيئية المترتبة عليه. واختتمت الجولة الأولى من المفاوضات هي الأخرى دون التوصل إلى حل مأمول، وتزامن ذلك مع قيام إثيوبيا بالملء الأول للسد، وهو الأمر الذي كان يؤكد على أن المفاوضات تسير في طريق الاستهانة بشواغل دول المصب. تلتها قمة إفريقية مصغرة عقدت يوم 21 يوليو/تموز 2020، دعت إلى مواصلة التفاوض والسعي لصياغة اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة.
تخرج القاهرة بمكسب معنوي محدود من خطوة اللجوء إلى مجلس الأمن، لكنها، في الوقت ذاته، تبدو وكأنها استنفذت مراحل التصعيد في جهودها الدبلوماسية. فالوساطة الأميركية التي تمت بطلب مصري، واعتبرها الإثيوبيون ضغطاً عليهم وتدخلاً غير محايد، انتهت بتحلل أديس أبابا من مسودة الاتفاق التي تم التوصل إليها. أما التصعيد إلى مجلس الأمن، فكان الاتحاد الأفريقي بالفعل قد قطع عليه الطريق بالإعلان عن رعايته لمفاوضات بين دول النيل الثلاث، من شأنها أن تصل إلى اتفاق نهائي في غضون أسبوعين.
اعتبرت أديس أبابا نفسها خرجت بانتصار من الجلسة، يُضاف لانتصاراتها في ملف السد. فمرة أخرى، كانت قادرة على التصدي للضغوط الخارجية، وأنه لا طريق لإرغامها على وقف أعمال التشييد، أو التوقيع على اتفاق يلزمها بحصص مائية لدولتي المصب. ويبدو مكسب الحكومة الإثيوبية مضاعفاً، وجانب كبير من المسألة يتعلق بدعاية النظام الحاكم داخلياً. فسد النهضة، المفترض به أن يكون أكبر السدود توليداً للطاقة الكهربائية في قارة أفريقيا، لم يتم تصويره فقط كمصباح سحري للنهضة الاقتصادية في البلاد، بل كرمزٍ للكرامة والوحدة الوطنية في إثيوبيا. فبعد عقود من تعاقب الأنظمة الاستبدادية والصراعات الأثنية الدموية والفقر المدقع، يتم الدفع بالمشروع القومي الأكبر في تاريخ البلد الأفريقي، كتاج عرش توحيد الإثيوبيين، في معركة لإثبات استقلال القرار الوطني امام الضغوط الخارجية، الإقليمية والدولية معاً.
وترأس جنوب إفريقيا المفاوضات بصفتها الرئيس للاتحاد الإفريقي، حيث تم الاتفاق على عقد جولة مفاوضات لمدة أسبوع بهدف التباحث حول نقاط التوافق والنقاط الخلافية.
وأرسلت إثيوبيا دعوة لعقد اجتماع في 4 يناير/كانون الثاني2021، وشارك فيه وزراء المياه من مصر وإثيوبيا والوفود الفنية والقانونية من الدولتين والمراقبين والخبراء المعينين من قبل مفوضية الاتحاد الإفريقي، فيما لم يشارك السودان في الاجتماع، حيث أعلنت الإدارة السودانية في مناسبات عديدة أن وضع الخرطوم لا يحتمل المضي في مفاوضات لا نهاية لها ولا تصل لحلول ذات قيمة.
ثم أتت مفاوضات “الفرصة الأخيرة” في إبريل/نيسان 2021 في كينشاسا، بعد تولي الكونغو الديموقراطية رئاسة الاتحاد الإفريقي، وصلت كل المفاوضات برعاية الاتحاد إلى طريق مسدود، ومحصلة صفرية، بعد أن فشل وزراء المياه بمصر والسودان وإثيوبيا في الوصول إلى اتفاق على دور الخبراء في التفاوض وإيجاد منهج جديد للمفاوضات، بجانب التوافق على السقف الزمني لعلمية التفاوض، واتفاق الدول الثلاث على إنهاء، وإعادة الملف مرة أخرى للاتحاد الأفريقي.
وأكد وزير الري السوداني، ياسر عباس، تمسك بلاده بالعملية التفاوضية برعاية الاتحاد الأفريقي، لكن بمنهجية جديدة للتوصل لاتفاق يرضي كل الأطراف حول ملء وتشغيل سد النهضة، مشيراً إلى أنه لا يمكن التفاوض إلى مالا نهاية.
وقال عباس إن القضايا الفنية والقانونية العالقة “محدودة ويمكن الاتفاق حولها، إذا توفرت الإرادة السياسية لدى كل الأطراف”. مشدداً على موقف السودان في ضمانة وسلامة منشآته المائية، خاصة أن بحيرة خزان الرصيرص لا تبعد سوى خمسة عشر كيلومتراً عن سد النهضة، وأعلن فريق التفاوض السوداني حول سد النهضة الاثيوبي رفضه الحازم لتجزئة الاتفاق على مراحل، للملء الأول والتشغيل الدائم كاتفاقين منفصلين.
استبقت إثيوبيا جولة مفاوضات الفرصة الأخيرة بالإعلان عن توليد الطاقة من السد في أغسطس/آب المُقبل، بعد الملء الثاني الذي تُصر على المضي فيه قدماً، حتى بدون الاتفاق مع مصر والسودان حول آلية الملء والتشغيل. وأديس ابابا ستبذل جهوداً كبيرة لإنتاج الطاقة من السد بعد عملية الملء الثاني في موسم الأمطار خلال يوليو/تموز المقبل. وفي تصريحات رسمية، اعتبرت الأشهر المقبلة هي الحاسمة لبناء سد النهضة.
رفضت إثيوبيا مقترحاً مشتركاً من مصر والسودان يقضي بالشراكة في إدارة سد النهضة، بل ورفضت أديس ابابا أيضاً عرضاً من القاهرة لإقامة مشروعات في مجال الكهرباء والطاقة.
مخاطر السد على مصر والسودان:
- انخفاض منسوب المياه في النيل الأزرق سيحول الري بالراحة إلى الري بالرفع مما يرفع من تكلفته وخاصة مع نقص الكهرباء والمواد البترولية في البلاد.
- حجز طمى النيل أمام سد النهضة، سيحرم السودان من المخصب الطبيعي لأراضيه مما سيتطلب استخدام الأسمدة الصناعية سواء بالاستيراد أو بالتصنيع الذى يتطلب أيضاً كميات من الكهرباء أكبر بكثير من التي سيحصلون عليها من السد الإثيوبي. كما سيُحجز الطمى امام السد.
- كما ستتوقف صناعة الطوب الأحمر في السودان، وستزيد معدلات النحر في النيل الأزرق مما يهدد المنشآت المائية والسدود والجسور.
- بحيرة سد النهضة يمكنها أن تغمر الغابات الشجرية وستحلل في المياه مما يمثل خطر بيئي كبير على الثروة السمكية بالسودان.
- أعظم المخاطر هو احتمال انهيار السد والذى يهدد بانهيار معه معظم السدود، بل والمدن والقرى السودانية.
- النقص في تدفق النيل الأزرق ستكون تبعاته مهددة وخطيرة على السودان لعدم توفر سدود بسعة تخزينية كبيرة تستطيع تعويض هذا العجز.
- احتمال انخفاض منسوب المياه الجوفية سيزيد من تكاليف رفعها بالإضافة الى نقص كميات المياه الجوفية الموجودة.
- سيقوم إنتاجه طاقة كهربائية تفوق استخدامات إثيوبيا، فإذا توقفت عن توليد الكهرباء، ستضطر إلى إغلاق فتحات المياه، وبالتالي ستصل كميات قليلة إلى مصر والسودان وإصابتهما بشحٍ مائي.
- التراكم المستمر للأملاح في الأراضي الزراعية بالدولتين يمكن أن يتسارع بسرعة، ما يهدد الزراعة بشكل عام على امتداد ممر نهر النيل، كما أن مخاطر بناء السد بصورته الحالية تضمن حدوث مخاطر عالية، إذ يتطلب تصميم سد النهضة بناء “سد سرج” كبير لمنع تسرب المياه المخزنة خلف السد من الطرف الشمالي الغربي للخزان. وتوجد مخاوف من الخبراء إذ لم يتم تقدير المخاطر المصاحبة لفشل محتمل في هذا السد، ويجب إدارتها بحرص وخبرة شديدة.
أزمة قانونية و سياسية
ليست وليدة الأمس، ممكن أن تتفاقم ودخلت في حيز التصعيد لأنها دخلت في أمن مصر الاستراتيجي والذي لا يمكن أن يساوم عليه أحد في هذا الاتجاه، في المقابل إثيوبيا تعتبر أن سيادتها المطلقة على النيل الأزرق هو حق قانوني طبيعي باستثمار مائها من خلال السد أو غيره من الاستثمارات دون الرجوع لأحد. الواقع هنا أننا لا نريد أن نرى نزاعات وحروب دامية جراء تخطي القانون الدولي ومبادئه المنظمة للأنهار الدولية. وكما نرى منذ بداية هذه الأزمة لم تصل إلى نتيجة نظراً لما مارسته إثيوبيا من تجاهل للاتفاقيات التراكمية أو الثنائية ولا حتى تحتكم للقانون الدولي برمته لكي نصل إلى تطبيق فعلي لإعلان المبادئ الموقع في 2015.
هناك معضلة قانونية خلفية بعيدة متمثلة في اتفاقية دولية تنظم المجاري النهرية خارج إطار الملاحة والتي لم توقع عليها مصر وإثيوبيا والسودان، وبالتالي هي غير ملزمة بشكل عام، ولكنها ملزمة من حيث المبادئ القانونية التي يؤكد عليها القانون الدولي والأعراف الدولية التي سبقت إبرام هذه القوانين. يبرز هنا موضوع الوساطة وأهميتها كموضوع أساسي للضغط السياسي من أجل الوصول لإطار قانوني يجر الأطراف إلى موقع يحقق انفراجاً للأزمة. والوساطة التي تداوم على طلبها مصر والسودان هي من ضمن آليات فض المنازعات المنصوص عليها في منظمة الأمم المتحدة. تلك الآلية تعتبرها إثيوبيا تسييساً لسدها واعتداءً على سيادتها عليه.
لابد أن توقع إثيوبيا على وثيقة بها ضمانات لدول المصب، فحتى الآن لم تقدم دراسات وبيانات السد بطريقة شفافة، ولا يعلم أي طرف من أطراف القضية شيئاً عن معامل أمان السد، مما يجعل عملية التفاوض تسير وفق نسق ضبابي عكس طبيعة وروح القانون، الذي يصاغ ويطبق على حقائق وليس مواقف مدفوعة بالنوايا وغير مدلل عليها بالنصوص القانونية الملزمة. فما هي الضمانات التي تقدمها إثيوبيا لمصر والسودان قبل الشروع في الملء الثاني مثل: أمان السد من الانهيار أو أنها لن تقوم بحجز مياه أكثر من اللازم أو أقل من اللازم فتتسبب في كوارث مائية وبيئة وزراعية ونقص في الكهرباء وتعطيل لمحطات المياه. هذا بالإضافة إلى أن إثيوبيا لم تقدم أي ضمان قانوني مقابل القيام بعملية الملء، يضمن سلامة السدود السودانية والمصرية القريبة مثل سد الروصيرص والسد العالي. وتلك الضمانات لا يوفرها سوى الاتفاق الملزم الذي تتنصل منه إثيوبيا طول العشرة أعوام الماضية.
حصر خبراء القانون الدولي بالتعاون مع خبراء الري أركان الاتفاق القانوني الملزم المتبقي لإثيوبيا في أربعة نقاط أساسية تُرضي جميع الأطراف وفي نفس الوقت تكون جامعة مانعة لمؤججات الصراع في أي وقت.
أولاً، حدود عملية الملء
ثانياً، توقيتات الملء
ثالثاً، عملية تشغيل السد خاصة في أوقات الفيضان والجفاف والجفاف الممتد
رابعاً، عملية تحديد آليات التقاضي و تحديد جهة الفصل في حالة النزاع القانوني
إثيوبيا إلى الأن وطبقاً للقانون الدولي فيما يخص الأنهار الدولية والذي ينص على أن دول المنبع عندما تقوم بعمل أي مشروع مائي أو سد يجب أن تبلغ دول المصب بتفاصيل هذا المشروع الفنية، فلا توجد في هذه الأزمة دراسات عن هذا السد مقدمة بحسن نية ولم تجاوب على الاستفسارات الهندسية والمائية التي طرحها الجانبين المصري والسوداني والتي طلبها المكتب الاستشاري الفرنسي لكي يقدم تقريراً وافياً، خلال جولات التفاوض بشكل كامل، من شأنه أن يحقق حالة استبيان فني وقانوني لدى المتفاوضين، إلا أنها تجاهلت الطلبات.
وقد شهدت المنطقة عدداً من الإشكاليات القانونية التي نبعت من سيناريوهات شديدة التماهي مثل سيناريو مفاوضات سد النهضة كان أبرزها مفاوضات سد إليسو في تركيا، الذي تمت فيه عملية الملء والتشغيل قبل التوقيع على اتفاق ملزم ودون حتى إخطار الدول المتشاركة في مياه دجلة والفرات، سوريا والعراق وكانت النتيجة خسارة 100 مليار متر مكعب من المياه كانت من نصيب تلك الدول قبل بناء هذا السد استغلالاً لفرصة هشاشة الدول الوطنية فيها عدم قدرتها على الردع.
اما اتفاقية المبادئ، ليست معاهدة إطار أو بها تأكيد نوايا، هي تكاد تكون قريبة من المعاهدات الملزمة وبها آليات غير مكتملة في مرمى تعاطي القانون الدولي معها. فتحت الباب لنقاش سياسي أكثر منه طرح قانوني، هذه الاتفاقية واضحة من حيث المبادئ وكيفية الولوج إلى اتفاق قانونياما حاكم لجميع الأطراف، وبالطبع يمكّن الجميع من التمتع بالوساطات المختلفة التي تضمن سريان الاتفاق في أجواء آمنة والالتزام ببنوده فيما بعد.
أما أن تبقى القضية في حوض للتسييس تجري فيه موضوعات السجال السياسي وليس طاولة اتفاق قانوني محددة بحقوق كل دولة ومحزمة بتوقيت يمنع التلاعب بأطراف المفاوضات، فهذا يلقي بالقضية في محيط لا آخر له قانوناً. لذلك أشارت هذه الاتفاقية إلى مبادئ كان أولها التفاهم، ثانياً، تناولت المنفعة المشتركة والتي غابت عن مصر والسودان وحصلت عليها إثيوبيا منفردة. لابد أن لا ينحدر الأمر للتساؤل عن منفعة الأطراف الأخرى، لأن الغموض المتوفر في هذه المسألة سيجعل الوضع القانوني أيضاً ملتبساً حسب القاعدة القانونية “يُبنى على الشيء مقتضاه” ونحن هنا في وضع لمعصوب العينين قضائياً.
أقحمت السياسة أيضاً في إطار الاتفاقيات المزمع عقدها نظراً لما تحمله هذه القضية من أهمية استراتيجية قصوى، أولاً، لمصر التي تعتمد بنسبة 95% على حصتها من مياه النيل للوفاء باحتياجاتها المائية التي تعاني شحاً مائياً شديداً، ثانياً، للسودان الذي يقترب السد من أمنه القومي والوجودي، ثالثاً، إثيوبيا التي تستخدم السد كدعاية سياسية للحفاظ على وحدة الأرض وكيان الدولة المهددة بالهشاشة السياسية والأمنية. انعكست تلك الظروف على فرص التوصل لاتفاق سلس وسريع، فالتوقيع على اتفاقية بهذا الحجم الضخم من الأهمية ليس بمثابة التوقيع على اتفاقية تجارية أو تشاركية في منفعة اقتصادية أو اجتماعية أخرى.
كانت تسوية واشنطن في فبراير/شباط 2020 ومسودتها مقدمة من الجانب الإثيوبي وهو من صاغها بخط يده تحت رعاية البنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية ولكنهم انسحبوا منها في أخر لحظة. تدخلت الرغبة في التشاور والتذرع بالظرف الانتخابي بالداخل الإثيوبي في الحيلولة دون الوصول إلى الاتفاق الملزم. مما يشي بأن إثيوبيا تعلم جيداً ما تحتاجه دول المصب في الشق القانوني ولكنها تفضل في كل جولة التنصل من التوقيع عليه. الأمر الذي يفقد أطراف النزاع وأطراف الوساطة، الحماس للإقدام على جولات جديدة يكون الفشل حليفها، بفضل غياب الإرادة السياسية لدى دولة المنبع.
إثيوبيا خالفت المواثيق والأعراف الدولية المنظمة للأنهار بإخفائها الدراسات الفنية وعدم توفير البيانات الدقيقة لأمان السد. تسببت دولة المنبع في ضرر بالغ للمنطقة تحقق مع الملء الأول، الذي أصرت عليه أديس أبابا في توقيت به شح مائي، ظهر في نقص تدفق المياه بالمجرى المائي في توقيت الفيضان العام 2020. تضررت السودان بشكل كارثي، عندما فاضت المياه ببحيرة السد في الملء الأول، عنما بدأت بالملء في خزان السد الذي لم يكن جاهزاً للكميات التي حاولت احتجازها، مما اضطرها لفتح بوابة إضافية، حيث تدفقت المياه إلى السودان محدثة فيضان غير محسوب المخاطر أدى إلى وفاة 100 شخص وغرق مدن بأكملها في أغسطس/آب من نفس العام. هذا النهج به خرق صريح للمبادئ القانونية ويثبت التورط الإثيوبي في إحداث الضرر بدول المصب وأول تلك المبادئ التي تم اختراقها هي الثالث والرابع والخامس من بنود اتفاقية المبادئ التي وقعت عليها بنفسها بعيداً عن إنكارها الاتفاقيات التاريخية.
كما هو موضح بالدراسة أن إثيوبيا بيتت النية لعدم التوقيع على وثيقة ملزمة تضعها في حرج أمام المجتمع الدولي مع دولتين في آن واحد، أحدهما لها باع طويل في التحكيم الدولي ولديها جيش مصنف عالمياً يعد من جيوش الصفوة وهي مصر، وهنا أيضاً عرقلت السياسة عمل القانون، مما أدخلها في دولاب الأزمات الإقليمية الممتدة على مدار عشر سنوات. إذا أضفنا إلى ذلك معلومة أن لإثيوبيا تاريخاً سيئاً مع أمان السدود بالعودة إلى عام 2010: حيث حادث انهيار جزء من “سد جيبي2” الذى كان مُقاماً على نهر أومو في إثيوبيا بعد 10 أيام فقط من افتتاح المشروع، وما ترتب على ذلك من كوارث كبيرة، سوف نجد أن الحادث يؤصل لمخاوف القاهرة والخرطوم تجديداً من مغبة المضي في الملء الثاني بدون ضمانات قانونية، وهو الأمر الذي لن تفعله إثيوبيا لما توفره لها المفاوضات بلا وساطة ولا ضغوط من أريحية في المراوغة مستفيدة بقرب موعد الملء.
الموقف الروسي والصيني
في خضم المفاوضات غير المجدية وعروض الوساطة المتتالية، جاء الموقف الروسي باهتاً بما لا يتناسب مع الإمكانيات التي تحظى بها أوراق الضغط الروسية على الأنظمة الإثيوبية. اقترحت موسكو مساعدة تقنية وفنية للعملية التفاوضية، دون تقديم عرضاً بالوساطة، وتدعم جهود الاتحاد الإفريقي للتوصل إلى حل وتعلن أن الحل يجب أن يكون إفريقياً، مما يشي بتفضيلها البقاء على الحياد المشوب بالميل إلى الرؤية الإثيوبية.
بحكم أن روسيا دولة صاحبة عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، وفي ظل تعثر المفاوضات وتعنت إثيوبيا، فالأمر مرجح أن تذهب مصر والسودان لمجلس الأمن لمناقشة الأمر ومحاولة الضغط باستصدار قرار إيقاف ملزم لإثيوبيا، فالوساطة والموقف الروسي لا يمكن أن يكون بعيداً عن التأثير. أزمة سد النهضة ليست بالشأن الذي تملك فيه روسيا رفاهية الابتعاد، لأنها صاحبة مصالح مشتركة مع ثلاثي أطراف الأزمة. كما أن موسكو كانت قد بدأت سياسة إعادة انتشار واسعة النطاق داخل القارة الإفريقية، حققت لها العديد مع الشراكات الاقتصادية والعسكرية الناجحة.
علماً بأن الوساطة الدولية الأكثر تأثيراً والتي كانت الأقرب لتحقيق اتفاق ملزم، كانت بفضل الظهور الروسي في المشهد، ففي القمة الروسية – الإفريقية التي عقدت في سوتشي، أكتوبر/تشرين الأول 2019 بين الرئيس السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، عندما ترددت الأنباء عن رغبة روسيا الدخول كوسيط، فتداركت واشنطن حدوث ذلك بين حليفتيها الأكبر في إفريقيا وأعلنت واشنطن رغبتها في جمع الفرقاء تحت رعايتها. مما يشير إلى تحسب واشنطن من مدى التأثير الروسي على حلفائها، وهو الأمر الذي حالت دون حدوثه سريعاً.
وبالرغم من امتلاك روسيا لخبرة دبلوماسية كبيرة وأدوات سياسية تمكنها من لعب دور فعال في أزمة سد النهضة، لم تلعب دوراً يعكس إمكانياتها ووجودها المطلوب لتحقيق أهدافها بعيدة المدى داخل القارة. وعدم لعب هذا الدور لن يلغي مسؤوليتها في دعم حقوق مصر والسودان للحفاظ على حقوقهم المائية. ويمكن لهذا الدور المتماهي أن يؤثر على إعادة رسم خططاً للتسليح كانت تتبناها دول الأزمة خصماً من الواردات الروسية، ولن تقوم باستعواض هذا الفاقد في مبيعات الأسلحة الروسية من إثيوبيا وحدها، بالرغم من أن معظم تسليح الجيش الإثيوبي هو تسليحاً روسياً، إلا إن الحكومة الفيدرالية الإثيوبية لن تكون مؤهلة للوفاء بالتزامات مادية لسداد فاتورة تسليح جديدة، بالإضافة إلى أن الطلب على التسليح من قبل الحكومة الإثيوبية سيكون كبيراً نظراً لتعدد الجبهات التي تشهد تفجيراً للصراعات الممتدة، ما بين متواليات ثأرية، إلى صراعاً على السلطة، لصراعات إثنية، وأيضاً وجود ضرورة ملحة لحماية الحدود الأثيوبية والتي ستستنفذ أسلحة ومعدات كبيرة من الحلفاء الروس.
قد تكون حل أزمة سد النهضة هي الهدية التي لم تقوم بتلقفها موسكو بعد، بل ولا تريد اكتشافها، خشية أن تلقي بثقلها في سلة واحدة من سلال أطرافها، إلا أن الزخم الكبير الذي أحاط بهذه القضية لم يفلت منه أحد من أطراف المجتمع الدولي. ونستطيع القول بأن من سيقدم الدور الأبرز لحل هذه القضية الإفريقية الأكثر جدلاً والأكثر خطورة على أمن القارة، هو من سيفرض على المشهد الإقليمي ثقله الاستراتيجي.
أما فيما يخص الصين، هذه القضية لن تمكّن بكين من الإبقاء على سياستها الخارجية المعهودة تجاه شؤون الدول الإفريقية بعدم التدخل. تمويل سد النهضة من قبل الصين يهدد بإذكاء مجموعة من التوترات والصراعات في المنطقة، ويتسبب في بقاء بكين في قلب هذه الأزمة، مهما حاولت الابتعاد عن تشابكات الحدث، تمتلك بكين الحصة الأجنبية الأكبر في المشروع من خلال تمديدها لتسهيل ائتماني بقيمة 1.2 مليار دولار، كجزء من قروض صينية بقيمة 16 مليار دولار لإثيوبيا وحدها، كما أن الصين تستحوذ على 60% من الاستثمار الأجنبي المباشر في إثيوبيا. كما أن الصين قد وقعت اتفاقاً مع الحكومة الإثيوبية في مارس2021، ينص على إنشاء آلية صينية لحماية أمن السد ومشروعات البنية التحتية الضخمة التي تنفذها الصين في إثيوبيا.
أديس أبابا هي ثاني أكبر مقترض من الحكومة الصينية في القارة الإفريقية، والتي لا يعزي قدرة اقتصادها الوفاء بتلك الديون في وقت قريب، لما تشهده الأوضاع الإثيوبية من تردي على المستويين السياسي والاقتصادي، إلا أن بكين تقوم بضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية في البلدان الواقعة على طول الطريق بآسيا وإفريقيا وشرق ووسط أوروبا، لخدمة هدفها الأضخم وهو “طريق الحرير”. بالرغم من أن مصر والسودان أيضاً يقعان ضمن الرقعة الجغرافية المستهدفة بالمشروع، إلا أن إثيوبيا حصلت على النصيب الأكبر في بنيتها التحتية.
على الصعيد الآخر، تولي الصين أهمية كبيرة للدور المصري عالمياً وإقليمياً ومركزية المحور المصري وجغرافيتها في مبادرة الحزام والطريق الصينية، لذا، جاءت تقارير مراكز الفكر والأبحاث الصينية منذ فترة قصيرة، لتقر أن مصر قد أثبتت مؤخراً دوراً عالمياً مؤثراً، ومحورية تأثيرها في صناعة القرار العالمي واقتصاد العالم بشكل عملي، ولقد أثبتت التقارير البحثية الصينية ذلك، بالتأكيد على أن جنوح السفينة “إيفر جيفن” في قناة السويس، وتعطل الممر الحيوي المصري العالمي، قد أثبت بشكل مفاجئ مركزية الدور المصري ومحوريته في الشرق الأوسط والسياسة الدولية فضلاً عن أهمية دور مصر في احتفاظ أي دولة بمكانتها في النظام الدولي.
الصين صاحبة المصلحة الأكبر في الإبقاء على علاقات حيوية مع الدولة صاحبة المرفق الذي يمر من خلاله 100% من الحاويات القادمة من أوروبا إلى آسيا، كما تحصل على 24% من الحاويات القادمة من باقي دول العالم إلى آسيا هذا بالإضافة إلى أن هذا المرفق الحيوي أصبح أكثر حيوية للصين منه لمصر صاحبته، إذ يمر منه 14% من تجارة الصين للعالم. وقد لمست الصين والعالم أهمية مصر القصوى بعد تضاعف أسعار الشحن والنقل والتأمين وتكاليف الإنتاج والوقود عدة مرات في أسوع إغلاق القناة. ويدل على ذلك ارتفاع أسعار النفط بنسبة 6 بالمائة بعد أقل من 48 ساعة على جنوح الناقلة. ويشكل المرور عبر القناة %10 إلى 15 %من إجمالي السلع التي تنقلها الحاويات إلى مختلف العالم.(10)
تأتي أهمية الموقف الصيني تجاه الأزمة من ترأس الصين لمجلس الأمن بالنسبة للأمن القومي لمصر لأهمية الاستفادة منه بضرورة عودة مصر ولجوئها إلى مجلس الأمن الدولي عبر تقديم مذكرة رسمية دولية، تطلب مساعدة الصين بصفتها رئيس دورة الانعقاد الحالي لمجلس الأمن ومعها حليفتها روسيا، قبل أن تبدأ أثيوبيا عملية تعلية الممر الأوسط الذي يؤدي في النهاية إلى التخزين للمرة الثانية. وفي حال عدم التوصل لاتفاق شامل وملزم لحل أزمة سد النهضة بين مصر وأثيوبيا من خلال وساطة الاتحاد الأفريقي، يبقى لدى مصر المسار الأهم في ذلك الإطار، وهو مسار مجلس الأمن الدولي الذى تترأس الصين دورته الحالية، ذلك أنه مصر في هذه الحالة ستتجه لمجلس الأمن الدولي الذى ترأسه الصين في دورته المقبلة لوضع أزمة سد النهضة على أجندة الصين. تتفهم بكين تخوفات الجانب المصري، والذى يمكنه أن يطلب من الصين خلال ترأسها لدورة مجلس الأمن القادمة، أن يعين مجلس الأمن الدولي بإشراف صيني مجموعة من الخبراء تقوم بوضع مسودة اتفاق تساهم في حل أو حلحلة الأزمة.
أسباب الدفوع الإثيوبي المتحجر
يعيد الخطاب الرسمي الإثيوبي كلمة “الاستعمار”، في مسألة السد، ما دفع وزير الخارجية المصري إلى الرد على تلك النقطة تحديداً، في مقدمة كلمته لمجلس الأمن، نافياً أن تكون الاتفاقيات السابقة لتوزيع الحصص المائية قد تم توقيعها في ظل الاستعمار كما يدعي النظام الإثيوبي. تاريخياً، شن الخديوي إسماعيل حرباً استعمارية على الإمبراطور الحبشي يوحنا الرابع، استمرت تسع سنوات من 1868 وحتى 1876. لا تحمل الذاكرة المصرية شيئاً يذكر عن “حملة الحبشة”، على عكس الإثيوبيين الذين انتصروا في تلك الحرب، ومازالوا محتفظين بمدرك سلبي في ذاكرتهم عن مصر على أنها قوة استعلائية معادية واستعمارية. زاد من ذلك المدرك العدائي، موقف القاهرة المؤيد لأرتيريا، في حرب الاستقلال ضد إثيوبيا، سبباً آخر للنظر إلى مصر كبلٍد مُعادٍ. وجاء اللجوء المصري للوساطة الأميركية في مسألة السد، ثم التصعيد إلى مجلس الأمن لاحقاً بتأييد من القوى الغربية، تأكيداً لمتوالية السردية الاستعمارية المتكررة، ودافعاً قوياً لتأجيج الحماسة الوطنية الإثيوبية داخلياً، ولهذا تصر القيادة الإثيوبية على العودة إلى مرجعية الاتحاد الإفريقي.
اللهجة الإثيوبية المستخدمة في بياناتها الرسمية وعلى صفحاتها الإلكترونية وعلى لسان متحدثيها الرسميين والنخبة الإثيوبية جميعاً، وصفت من قبل الخبراء بالاستعلائية، التي تفتقر للخبرة الدبلوماسية في التعامل مع شؤون دولية على هذا القدر العالي من الحساسية. كانت تلك اللهجة سبباً لإثيوبيا في حرج دبلوماسي عدة مرات، وساعدت الدبلوماسية المقابلة لها، سواء المصرية أو السودانية في قبول طرحها الفني بخصوص الأمور الخلافية المتعلقة بالسد. خصوصاً وأنه لا خلافاً من الناحية الفنية على حقوق دول المصب في الحفاظ على تدفقاتها من المياه وضمان تدفق آمن وسلس لذلك المورد. وإذا أضفنا للهجتها الاستعلائية إلى ما تقدم عليه من تصرفات أحادية طوال مراحل التفاوض فسنجدها تصطدم بالقانون الدولي المنوط بالأنهار الدولية. كما أن سابقة بناء سد في دولة منبع ليس بجديد على الكرة الأرضية، وإلا توقفت أنهار أوروبا عن السيران مثل الدانوب والراين وتتحكم بها دولة واحدة على حساب باقي الدول التي يعبرها النهر.
لا تعترض إثيوبيا الدخول في مفاوضات داخل الدائرة التي حددتها لذلك الإطار وهي دول أطراف التفاوض الثلاث، والاتحاد الإفريقي فقط. حيث أنه يوفر لها التعنت بلا مراقبة دولية. فالمرة الوحيدة التي قبلت بالوساطة الأمريكية، وجهت لها الانتقادات بداية من الأسلوب غير الدبلوماسي في التفاوض، وصولاً إلى الالتفاف على القانون الدولي وعدم الجدية في مناقشة الأمور الفنية الخاصة بأمان السد، وكان آخر الاتهامات التي وجهتها وزارة الخزانة الأمريكية التي تقوم بتمويل المشاريع الإنمائية داخل إثيوبيا، هو انعدام حسن النية في التفاوض وربطته بالدعم المادي المقدم لتمويل المشروعات. انسحبت على إثر هذا الربط إثيوبيا من محيط مفاوضات واشنطن، التي حاولت وضعها أمام مسؤولياتها تجاه حقوق دول المصب وهو الأمر الذي تعودت على التنصل منه والهروب منه. تعللت إثيوبيا برفضها أية ضغوط من الجانب الأمريكي وتصورت أنها عادت منتصرة، بينما في الواقع، هي كشفت للبنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية عن وجهها المتعنت و كسرت قارورة المظلومية الهشة.
ومع وصول إدارة الرئيس بايدن لسدة الحكم في 2021، كانت على استعداد واسع للتعاون مع أديس أبابا، كنوع من مخالفة سابقتها، إلا أن الإدارة الأمريكية الجديدة وجدت نفسها محملة بملف ضخم من الانتهاكات الإثيوبية لحقوق الإنسان بسبب المجازر التي ارتكبتها الحكومة الفيدرالية بالتواطؤ مع الجيش الإرتيري في إقليم تيغراي الإثيوبي. بالإضافة إلى تقارير البنك الدولي التي أشارت إلى خطورة التصرفات الإثيوبية الاستعلائية في التفاوض والانسحاب الذي أحرج الإدارة الأمريكية للرئيس السابق دونالد ترامب، كما حذرت من ترك الأمور للتفاقم بسبب النهج الإثيوبي المدمر للداخل وللإقليم.
الموقف السوداني
يواجه السودان تهديداً وجودياً من بقاء وضع التفاوض على حالته الضبابية التي تدك مضجعه بسبب تجربته مع الملء الأول المريرة والذي نتج عنه فيضان عارم تسبب في كوارث بشرية واقتصادية وبيئية جسيمة، جعلت صوت السودان قبيل الملء الثاني هو الأعلى صوتاً والأكثر حدة في التفاوض. يعاني أيضاً السودان من غياب المعلومات الفنية الخاصة بالسد من الجانب الإثيوبي، التي تجعله في حالة تخبط لخططه الزراعية والكهربائية. نظراً لغياب تلك المعلومات فهو لا يستطيع التنبؤ بوضع تخزين المياه، فهو سيواجه نقصاً حاداً في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز، وبالتالي تمتد تلك الضبابية أيضاً في أغسطس/آب التي ستؤدي إلى فقدان الموسم الزراعي. وما زال السودان يخاطب إثيوبيا تفاوضياً وثنائياً لحجز أكبر كميات من المياه في أغسطس/آب بديلاً عن يوليو/تموز لتقليل أثر عملية الملء ويحصل السودان على موسم زراعي بلا خسائر من فيضان عالي على السودان.
جاء على لسان وزير الري السوداني الدكتور ياسر عباس أن إثيوبيا تراوغ وتعمل على شراء الوقت، كما اتهم الاتحاد الإفريقي بعدم لعب دوره القيادي والاكتفاء بالمراقبة وانتفاء وجود مساعي جادة للوصول إلى اتفاق. دلل الوزير على تواطؤ أجهزة الاتحاد لخدمة المصالح الإثيوبية، عندما اعترض السودان على التصرف الأحادي في الملء الأول بخطاب رسمي موجه للاتحاد الإفريقي بضرورة التعليق على إعلان إثيوبيا عن عملية الملء الأحادي، لم يرد الاتحاد، في حين أن خطاب الاتحاد الأول ودعوتهم للتفاوض تحت مظلته بتاريخ 26/6/2020 كان منصوص به طلبه من الدول الثلاث عدم اتخاذ أية قرارات أحادية لمساعدة عملية التفاوض من أجل الوصول إلى الحل المنشود.
كانت السودان تعول بعض الشيء على الاتحاد الإفريقي، إلا إنه خيب آمالها بشيء ملموس فيما يقرب من عام كامل من التفاوض بعد جلسة مجلس الأمن، حتى الخبراء الذين قام باستدعائهم لم يكونوا إلا مستمعين للمتفاوضين ولم يسمح لهم الاتحاد بالتدخل وإعطاء المشورة. كما أخذت أيضاً السودان على الاتحاد عدم إقدامه على أيه محاولة للضغط على إثيوبيا لتقريب وجهات النظر، لا في رئاسة جنوب إفريقيا ولا حتى في فترة الكونغو الديموقراطية الحالية.
استمر السودان في استشعار الخطر المتزايد خصوصاً مع اقتراب فترات الملء الثاني، فبات على صفيح ساخن من الترقب ووجد الموقف في جل المفاوضات التي تمت تحت رعاية الاتحاد الإفريقي وآخرها مفاوضات الفرصة الأخيرة في كينشاسا عاصمة الكونغو الديموقراطية، بدلاً من الحديث في النقاط الخلافية، انسحب بساط المفاوضات للحديث عن آلية التفاوض مما أغضب الجانب السوداني و انسحب منها، كرد فعل للتواطؤ بين الاتحاد والإدارة الإثيوبية، خصوصاً بعد رفض الطرح السوداني بعمل وساطة رباعية بين الدول الثلاث والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، لإرضاء إثيوبيا على حساب مصالح مصر والسودان.
أصبح السودان مطالباً باتخاذ إجراءات فنية لدرء كوارث الملء الثاني في حال إقدام إثيوبيا عليه بدون اتفاق منها: تخزين مياه بخزان الروصيرص، وعدم الإفراغ التام لخزان جبل الأولياء لأول مرة منذ 100 عام، وذلك لتأمين مياه الشرب والزراعة. كما قام السودان بتكليف وزارة كهرباءه بالتحضير لنقص الكهرباء المحتمل جراء خطوات إثيوبيا الأحادية لتعويض الفاقد في الكهرباء بشهري الملء يونيو/حزيران ويوليو/تموز. كما هددت الخرطوم بالملاحقة القانونية للشركة المنفذة للسد “ساليني الإيطالية”، وأيضاً مقاضاة إثيوبيا ذاتها في المحاكم الدولية، بالموازاة مع العمل التفاوضي والحشد الدبلوماسي المكثف للتوصل إلى اتفاق جاد.
خرجت السودان من التجربة التفاوضية وهي مهددة تهديداً وجودياً خطيراً بعد أن اختبرت النوايا الإثيوبية المبيتة بعدم الاكتراث بالمصالح السودانية سواء في تأمين المياه أو تأمين الحدود. وكانت الدوافع جاهزة للبحث عن حليف يشاركها تهديداً مشابهاً ويدعمها بشكل أساسي لحماية أمنها القومي من التهديد الإثيوبي مترامي الأبعاد، فكان هذا الحليف هو مصر بالتأكيد. طمأنت مصر السودان بتقديم عدد من مذكرات التفاهم في مجالات الطاقة الكهروبائية أولاً، ثم عدداً من المسائل الاقتصادية العاجلة التي لم تستطع الخرطوم الحصول على تمويل لازم لإتمامها نظراً للعزلة التي كانت مفروضة عليه.
توالت التفاهمات وتوجتها اتفاقية التعاون المشترك التي وقعت في مارس/آذار 2021 والتي عززت من الوجود العسكري المصري على الأراضي السودانية في قاعدة مروي بمناورات نسور النيل1 التي سبقت الاتفاقية في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2020، ثم نسور النيل 2 وكلاهما مناورات جوية. لتأتي الاتفاقية بمناورات حماة النيل التي أعلن أنها شملت تدريباً عالي ومتعدد لكافة أفرع الجيشين المصري والسوداني. نقلت القاهرة إلى الخرطوم أرتالاً عسكرية ثقيلة من أسلحة الدفاع الجوي، والطيران والقوات الخاصة والمشاة والمدفعية وحتى القوات البحرية.
الحلول المنتظرة
أجادت مصر تطبيق سياسة التطويق الاستراتيجي حول دوائر علاقاتها الخارجية المتشابكة، بدأت بدولة قطر في الخليج العربي الآسيوي التي صرفت بسخاء على سيناريوهات إخضاع مصر بتمويل الإخوان والجماعات الإرهابية ضد الدولة المصرية. فما كان من مصر إلا أن عزلتها عن محيطها الخليجي لسنوات، مما اضطرها إلى طلب التصالح ومحاولة تفادي غضب القاهرة، والذي وافقت عليه بشكل جزئي مرحلي. طبقت مصر نفس السياسة النافذة مع تركيا في الجنوب الشرقي الأوروبي والتي ناصبتها العداء بإيواء المطلوبين أمنياً والتحريض على الدولة المصرية بالتآمر والتجنيد وفردت محطات إعلامية تركية ناطقة بالعربية لخدمة أهدافها ضد القاهرة. فجاء رد مصر شديد القسوة، حيث حرمتها من غاز شرق المتوسط وأفسدت عليها فرصة التوقيع على اتفاقيات ترسيم حدودها البحرية مع جيرانها في حوض البحر الأبيض المتوسط. واستطاعت تأمين حدود مصر الغربية من الاعتداء التركي، بقطع دابرها عن جارتها ليبيا بعد أن أشهرت لها خطاً أحمراً أمام العالم لم تستطع أنقرة أن تتجاوزه. وبالأخير رضخت تركيا أردوغان إلى الإرادة المصرية وباتت تستجدي التصالح معها بكل السبل. وواضح أن الأوان قد حان أن تتذوق إثيوبيا في الشرق الإفريقي من علقم سياسة التطويق الاستراتيجي على يد مصر.
تطويق إثيوبيا جاء على محاور إقليمية ودولية: محور قانوني دولي، ومحور لوجيستي – اقتصادي أمني وعسكري.
المحور القانوني متمثل في شقين هما الاتفاقيات التاريخية التي تحاول إثيوبيا التنصل منها ولكن المبدأ في القانون الدولي هو “تثبيت توارث الاتفاقيات الدولية” وهو ما يقوي موقف مصر في حال الدخول في تحكيم قانوني، نظراً لأن الاتفاقيات التاريخية تثبت الحق المصري الأصيل في مياه النيل ولا تسقط بالمزاعم ولا التقادم، بالتالي مهما قدمت إثيوبيا من دفوع ومبررات للتنصل منها لن تجدي أمام المحافل الدولية. الشق القانوني الثاني متوفر في اتفاقية المبادئ التي وقعتها في 2015 والتي قامت بخرق جميع بنودها مثبته سوء نيتها في مقابل حسن نوايا مصر والسودان. ساهمت تلك الاتفاقية في تحسين الصورة المصرية لدى الرأي العام الإفريقي، داحضة المظلوميات الإثيوبية.
ومصر صاحبة حق مثل سائر الدول الأعضاء بمنظمة الأمم المتحدة، لها الحق في ممارسة كافة مزايا العضوية التي تتمتع بها والحقوق التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة لكل الدول الأعضاء على حد سواء، ومن ثم لجأت مصر بعد أن زاد وفاض بها الكيل من النهج الأُثيوبي المتلاعب إلى مجلس الأمن إعمالاً للمادة /33/ من ميثاق الأمم المتحدة، لذلك، فالزعم الأثيوبي بانتهاك مصر البند العاشر من اتفاقية إعلان المبادئ لسد النهضة في عام 2015، والخاص بتسوية النزاعات، هو أمر غير صحيح وتحاول أديس أبابا تفويت الفرصة للاستفادة منه.
هذا المحور القانوني يبدأ عند قاعة مجلس الأمن التي لجأت لها في يونيو/حزيران 2020 لحل النزاع تحت البند السادس، المعني بتسوية النازعات السياسية بين الدول، كما عددتها المادة /33/، بعدة وسائل مثل الوساطة، التفاوض، والمساعي الحميدة، ولجان التحقيق، بالإضافة إلى الوسائل القضائية المختلفة ومنها التحكيم والقضاء الدولي.
حملت القاهرة هذا المطلب إلى مجلس الأمن، بينما نسقت إثيوبيا مع دولة جنوب أفريقيا التي كانت تمثل القارة الأفريقية في المجلس ضمن الأعضاء غير الدائمين، واستغلت النقطة القانونية في البند السادس تشير إلى أن تسوية المنازعات السياسية ليست مقتصرة فقط على مجلس الأمن، ولكنها من حق المنظمات الإقليمية الأخرى، ومنها الاتحاد الإفريقي، ولذلك طلبت وساطة الأخير كي يتدخل لإسعافها في تسوية النزاع.
إلا أن تدخل الاتحاد الإفريقي بقيادة دولة جنوب أفريقيا ومن بعده الكونغو، فشل على مدار عام في حل النزاع، لذا لم يعد أمام مصر ومعها السودان سوى اللجوء لمجلس الأمن تحت الفصل السابع هذه المرة، حيث يحق لهما التقدم لمجلس الأمن بمذكرة تفصيلية لشرح الوضع المتفاقم والمخاطر التي تعرضوا لها فعلياً والمتوقعة، مثبتين أنهما قد قاما باحترام رغبة المجلس في حل النزاع عبر الاتحاد الإفريقي، وسلكا كل الوسائل التي تؤدي للحل سلمياً والوصول لاتفاق قانوني ملزم لملء وتشغيل السد وفق القوانين الدولية المتعارف عليها وقواعد القانون الدولي لإدارة الأنهار الدولية المشتركة، إلا أنهما قد توصلا إلى أن هذا المسار فشل بإرادة أثيوبية متعنتة، ويطلبان تدخل المجلس وفق الفصل السابع وإلزام أثيوبيا بتعليق الملء الثاني إلى حين التوافق على كافة البنود الخلافية. وممكن طلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، لأن النزاع قد وصل مرحلة شديدة الخطورة وتنطبق عليه صفة النزاع المهدد للسلم والأمن والاستقرار الدولي ويطلبان من المجلس القيام بدوره باعتباره الجهة المنوطة بحفظ السلم والأمن الدوليين.
في حال لم يقدم مجلس الأمن على وقف الملء، ففي هذه الحالة، تصبح مصر والسودان تملكان الحق بالطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة التصويت على فشل مجلس الأمن في تسوية النزاع المهدد للسلم والأمن الدوليين تجاههما، وطلب توصية بتطبيق قوانين وقواعد إدارة الأنهار الدولية. تنفيذ تلك الوسائل يضمن أن الدولتين أثبتتا بكل جدية للمجتمع الدولي إن مجلس الأمن والمنظمات الدولية معا قد فشلا في حل النزاع وتسويته.
ونكون قد وصلنا لإثبات هذا الفشل بالأدلة والبراهين مع تضمين الانتهاكات القانونية من الجانب الإثيوبي على مدار 10 سنوات من المفاوضات المضنية، وسرد كافة تقارير الوساطات، وتوصيفها توصيفاً قانونياً وفقاً لمبادئ وقواعد القانون الدولي للأنهار التي خرقتها أديس أبابا متعمدة إحداث الضرر، وتبعات تلك التصرفات الأحادية المنفردة على الملكية المشتركة للنهر الدولي، حتى يمكن توصيف إثيوبيا على إثر ذلك بوضعية الدولة الخارقة للقانون الدولي، والمتسببة في تهديد مباشر للسلم والأمن الدولي، والتأكيد على أن الدولتين قد استنفذتا كافة الطرق القانونية والدبلوماسية والسياسية لحل الأزمة، ولم يعد أمامهما سوى الخيار المر. وبذلك لا يستطيع أحد توقيع أية عقوبة عليهما وتتمكنا من الحفاظ على مقدراتهما.
لم تختبر إثيوبيا بعد أية من أوراق الضغط المصرية والسودانية، ولا حتى اوراق الضغط من المجتمع الدولي، إذ يمكن لمصر وحدها الضغط بورقة إفريقية تفضلها إثيوبيا وهي ورقة “الاتحاد الإفريقي”. من أسباب فشل مبادرات التفاوض والوساطة، هو إصرار إثيوبيا على التفاوض تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، تلك المنظمة القارية التي تعرف أنها بلا أسنان ولا يمكن أن تمارس عليها ضغوط اقتصادية أو عقوبات اقتصادية وبالتأكيد لن تستطيع إخضاعها عسكرياً، لذلك تتمسك أديس ابابا بالبيت الإفريقي لأنه ملعبها الأساسي.
وإذا علمنا أن ميزانية الاتحاد تعتمد على التمويل الخارجي بنسبة 63% من دول كبرى مانحة ومنظمات أبرزهم الاتحاد الأوروبي. لكن مصر تعتبر من أهم الدول مساهمة في ميزانية الاتحاد الأفريقي بـ12% تقريباً، فليس من المستغرب أن هددت مصر بتعليق عضويتها أو انسحابها من الاتحاد الذي يعاني مشاكل تمويلية بالفعل. ليس من المقبول أن تستمر القاهرة في تمويل كيان تواطئ بالإهمال في التعامل مع ملف أمن قومي لمصر وبالتبعية السودان أيضاً. ستشكل هذه الورقة تهديداً كبيراً على المنظمة في حال نجاح مصر في الحشد الإفريقي والإفريقي العربي، احتجاجاً على سوء أداء الاتحاد في الإشراف على المفاوضات. كما أن هذه الخطوة ستساهم بالخصم من رصيد إثيوبيا وثقلها السياسي في القارة الإفريقية.
أما التطويق الاقتصادي اللوجيستي فقد ارتكز التعامل المصري على تشكيل تحالف إقليمي قوي يهدف إلى دعم التكامل الاقتصادي والتعاون الأمني. وضمن هذا الإطار جاء التحرك المصري باتجاه دائري حول دول الطوق الإثيوبي: السودان – كينيا – بروندي – أوغندا – الكونغو – تنزانيا – جيبوتي. قامت بعقد اتفاقات للتعاون الأمني والدفاعي والاستخباراتي. حيث وضعت إثيوبيا أمام معادلة لا يمكن أن تؤدي محصلتها لبقاء طموحات الصمود بمعطيات أديس ابابا من التكامل الاقتصادي مع دول جوارها في وقت تسببت فيه إثيوبيا بهشاشةً أمنية واقتصادية داخلية.
باتت مصر أكيدة من أن المجتمع الدولي يشاهد ويتفهم موقفها ولكنه لن يقوم بتفعيل أوراق ضغط موجعة مثل العقوبات الاقتصادية لحل أزمة سد النهضة. ولهذا كان الضغط اقتصادياً على إثيوبيا مرتبط فقط لإنهاء الحرب على إقليم تيغراي. تحركت مصر لزيادة صادرتها بنسبة 27.3% لدول الطوق الإثيوبي، في شكل مكثف من خلال إنشاء أسطول بحري لعمل خط ملاحي مصري لخدمة الصادرات المصرية، كانت البداية لهذا الخط من ميناء نيروبي كينيا في 2019 ومن المتوقع أن يشمل موانئ دار السلام في تنزانيا. التوغل المصري اقتصادياً حول إثيوبيا يجعل المصالح المصرية مقدمة على المصالح الإثيوبية في المحافل الدولية.
استكمالاً خطة تطويق إثيوبيا التي تنتهجها الدولة المصرية، اخترقت مصر العلاقات الإثيوبية في دولتين كانتا من الدول شديدة التأييد لإثيوبيا منهم تنزانيا وجيبوتي. أنشأت الدولة المصرية تحالفات بين القطاع العام ممثلاً في شركة المقاولون العرب، والقطاع الخاص في شركة السويدي للكابلات، لإنشاء سد جيوليوس نيريري في تنزانيا، أول دول حوض النيل مناداة بإسقاط الاتفاقيات التاريخية وإلغاء معاهدات الاستعمار. وبفضل تلك الجهود، طالبت دار السلامة باقي دول الحوض بمراعاة حقوق مصر العادلة في مياه النيل مما يعد انتصاراً لسياسة التطويق الاستراتيجي التي تبنتها.
كما تمكنت من إحداث اختراق غير مسبوق في العلاقات الأثيوبية – الجيبوتية. تكمن خطورة جيبوتي بالنسبة لإثيوبيا في أن 90% من التجارة الإثيوبية يمر من خلالها. الأمر الذي يضع أديس أبابا تحت ضغط هائل خصوصاً بعد توقيع عدد كبير من اتفاقيات التعاون الاقتصادي والثقافي والعسكري. وبفضل هذه السياسة لن نرى جيبوتي تتحفظ على قرارات تخدم المصالح المصرية مرة أخرى مثلما فعلت في السابق داخل جامعة الدول العربية. وهذا يشكل التحرك المصري تهديداً اقتصادياً خطيراً على شرايين الاقتصاد الإثيوبي لا يقل ضراوة عن التهديد العسكري.
أما التطويق العسكري فقد أتى بفضل التحرك المصري النشط لتفعيل أدواتها العسكرية في مشهد من تنعيم القوة الخشنة. حدّثت مصر جيشها ليصبح أقوى جيش في القارة برمتها، وبدلاً من استخدام تلك القوة في حرب اعتيادية، مارست بسط قدرات قوة جيشها بنعومة من خلال استغلال قدراته الكبيرة في تشجيع البلدان الأفريقية وخصوصاً دول الطوق الإثيوبي بمعاهدات تعاون عسكري واستخباراتي مشترك يؤرق الإدارة الإثيوبية ويجعلها في قلق بالغ من وضعها الأمني بالقرب من الوجود المصري الذي لم تحسب له حساباً في مفاوضات الإنهاك التي مارستها طيلة العقد الماضي.
يلوح في الأفق مشهدا ينبئ بأن مصر حاليًا ستتحمل عبء التأسيس لمنظمة ناشئة لحوض النيل على غرار منتدى غاز البحر المتوسط ومقره القاهرة، الذي استطاعت ضم اليه دول الحوض الأوروبية و الآسيوية، وتمكنت من ضم دولا خليجية لعضويته، بل وترفض عضوية من تتعارض سياسته مع مصالحها. وبما أن القاهرة تتفادى اخطاء الماضي في الغياب عن افريقيا، فهى تنشئ مجلس مجلس أمن حوض النيل،الذي ستضم إليه دول الطوق الإثيوبي الذين وقعت معهم اتفاقيات عسكرية وهم اوغندا، بروندي، كينيا، چيبوتى. فبعد هيمنة اثيوبيا على الإتحاد الإفريقي و منظمة الإيجاد للتنمية، توجد مصر لها مجلس امن بحوض النيل موازيا لتلك المنظمات التي ظنت النخب السياسية الإثيوبية أنها تستطيع تهديد مصالح مصر والسودان من خلالها بإعتبارها تتحكم بتلك المنظمات. ليصبح الوضع ، بعد استخدام القاهرة عدة تكتيكات تحفيزية لمحاولة الضغط على أديس ابابا للموافقة على مطالبتها باتفاق ملزم بشأن تشغيل وملء سد النهضة، ونظام للتعامل مع حالات الجفاف والنزاعات المستقبلية، الآن انقلبت الطاولة مع ترسانة الاتفاقيات الأمنية التي وقعتها مصر مع دول أفريقية حول إثيوبيا.
الوقت يضيق أمام موعد الملء الثاني وراء سد النهضة في الأشهر المقبلة. لكن الطريقة التي تعمل بها مصر والدول الأفريقية معًا، في إطار تأسيس مجلس أمن النيل المحتمل، قد تكون مثالًا، إيجابيًا لتعاطي سياسي استراتيچي يسحب البساط من تحت اقدام الأبواق المخربة لفرص الحل و الإتفاق، بتخشين دبلوماسي، يحقق المصالح المصرية بخصم من الثقل الإثيوبي وعزله عن محيطه، للضغط عليه من اجل إرغامه على الإلتزام الحتمي.
كان لويلات الحرب على إقليم تيغراي الدور الأكبر في التباعد الأمريكي عن التبرير للمواقف الإثيوبية، كما كان في السابق. ساهمت تلك الحرب في تشويه النموذج الذي كانت تحاول إثيوبيا تسويقه للعالم على أنها مثال للتعايش الأفريقي الناجح، مما أفقدها الكثير من عوامل الإسناد الدولي الذي كانت تحظى به منذ عقود. كما أن استمرار الوضع الكارثي في إقليم تيغراي والسماح الإثيوبي للقوات الإيريترية بالبقاء على أرض التيغراي والتحكم في شبكة موصلاتها وارتكاب جرائم حرب، ساعد على الخوف من قرب التطويق المصري بمصدر التهديد، بما يتيح للقاهرة مزايا التحرك المرن والتفوق الدبلوماسي الهادئ، لإعادة تقديم نفسها كقوة اقتصادية وخبرة تنموية ونموذج ضامن للأمن على حساب الهيمنة التي كانت تفرضها إثيوبيا على محيطها في القرن الإفريقي.
إثيوبيا يؤرقها الموقف المصري، فهي تريد فرض سياسة الأمر الواقع وفي نفس الوقت مصر البلد الغني بنفوذه الممتد خارج حدود القارة، بشكل أصبح ملحوظ للكافة متمسكة بالنهج الهادئ والدبلوماسي، وهذه الموضوعية والتي قد تبدو “تباطؤ” تخيفها، فالكل يعلم أن فرض سياسة الأمر الواقع على مصر والسودان مجرد أوهام لدى أديس أبابا، لأن مصر لو أرادات تخريب السد فهي لا تحتاج إلى قواعد عسكرية لمواجهة الأزمة، فيمكن لمجموعة من القوات الخاصة، أو الضفادع البشرية إنهاء جسم السد أو إعاقة استخدامه، ولكنها لم تفعل منذ أن كان في المهد. وإثيوبيا لديها تخوف كبير، من عدم التوافق حول إنهاء الأزمة، لأنها تعرف أن الهدف من استمرار مفاوضات وزراء الري في الدول الثلاث تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، تأتي في إطار تطويقها وسياسة لاستيعابها سياسياً.
رغم سكوت مصر وعدم التصعيد الإعلامي مع الجانب الإثيوبي رداً على التصريحات المستفزة وغير المبررة للمسؤولين في أديس أبابا، وإعطائها فرصة لجميع الأطراف، إلا أن السياسة المصرية المستحدثة في أزمة سد النهضة سياسة هادئة ومباغتة، وتمثل سابقة، لأنه لم يكن يتصور أحد صبر مصر على المفاوضات اللانهائية، ولا أحد يستطيع التكهن أيضاً بأن مصر تفكر في حلول أخرى غير دبلوماسية أو عسكرية، مع أنه في مقدورها في خلال ساعات وبإمكانيات متاحة لديها، ولكن في النهاية يعلم الجميع أن مصر لن تسمح بأن تقوم إثيوبيا بفرض سياسة الأمر الواقع عليها.
أخيراً، شاءت الظروف التاريخية أن تبدأ أزمة سد النهضة في ظل حراك سياسي مرت به مصر، افترسته إثيوبيا لبناء سدها. وبعد مرور 10 سنوات شاءت الظروف التاريخية أن تمر إثيوبيا بمتواليتها الثأرية الإثنية من الصراعات التي قد تصل إلى حد الانفصال والتفكك. مثلما ولدت الأزمة “سد النهضة” من رحم أزمة سياسية، فمن المرجح أن تنتهي الأزمة “سد النهضة” في خضم حرب “التيغراي”. لن تترك مصر والسودان شعبيهما تحت وطأة إثيوبيا، ولن تقبلا بالتنازل، لأن من المياه خلق كل شيء حي. ولا يوجد عاقل واحد يتصور أنه بالسهولة بما كان أن تنجو إثيوبيا بفعلتها في البناء بلا اتفاق، والمضي في مفاوضات متلاعبة بالجميع، وحرمان 150 مليون إنسان من حقهم الطبيعي في الحياة. رهان إثيوبيا خاسر هذه المرة، لن يغامر أي نظام بحياة شعبه من أجل سد أثيوبيا.
العالم غير مستعد لتفجر الأوضاع في هذه المنطقة الحيوية القريبة من حركة الملاحة في البحر الأحمر. وإثيوبيا لم تعد تتمتع بالدعم الدولي لمروقها السياسي وانهيار حججها أمام الثبات والصبر ونجاح سياسة الاستيعاب والتطويق الاستراتيجي المصري.
وأختم بتحذير الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مارس/آذار 2021: ” مياه مصر خط أحمر وإلا سيكون هناك حالة من عدم الاستقرار لا يتصورها أحد، ولا يتصور أحد أنه بعيد عن قدرتنا، ونحن لا نهدد أحد”.
خاص وكالة “رياليست” – شيرين هلال – باحثة في الشؤون الدولية – متخصصة بالشأن الأفريقي
المراجع:
(1) يُشير مصطلح الهيدروبولتيكس Hydropolitics إلى العلم الناتج عن التزاوج بين علم السياسة وعلم المياه، إذ يقوم هذا العلم بدراسة وتحليل وتفسير الظواهر السياسية، من قبيل التفاعلات الدولية والصراعية أو التعاونية، في إطار الدراسات المائية. تحصُل مصر على 55.5 مليار متر مكعب سنوياً من مياه نهر النيل؛ و2.1 مليار متر مكعب من المياه الجوفية العميقة؛ و1.3 مليار متر مكعب من مياه الأمطار والسيول؛ و0.35 مليار متر مكعب من تحلية المياه المالحة وشبه المالحة.
أنظر: أسامة محمد سلام، البصمة المائية المصرية: مؤشر أمن الماء والغذاء، 2013، الصفحات: 76 -83، كتاب إلكتروني متوفر على الرابط التالي:
(2) أنظر:
Pierre Crabites, “The Nile Water Agreements”, The Foreign Affairs, June, 2018.
(3) صبحي على قنصوه، “المطالب الإثيوبية في مياه النيل وأثرها على الأمن المائي المصري”، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة، 2014، ص: 16.
(4) الملحق الخاص بالمادة 14، الاتفاقية الإطارية للتعاون في حوض نهر النيل 2010 (اتفاقية عنتيبي).
(5) حسن زنيند، “خبراء ألمان يرسمون آفاق حل لمعضلة سد النهضة”، دويتشه فيله، 24 يونيو 2020، متوفر على الرابط التالي:
(6) شرف عبد الحميد، “مصر: السودان أفرغ قرار جامعة الدول العربية يشأن السد من مضمونه”، 9 مارس 2020، موقع العربية متوفر على:
(7) أ.ش.أ: “شهيدان من الجيش السوداني في إشتباكات على الحدود مع إثيوبيا”، اليوم السابع، 8 مارس 2020. متوفر على الرابط التالي::
(8) الفقرة الأولى من المادة 35، ميثاق الأمم المتحدة 1945.
(9) تشكيل لجنة من 4 دول للتنسيق مع مجلس الأمن.. 9 قرارات للجامعة العربية بخصوص سد النهضة”، المصري اليوم، 23 يونيو 2020. متوفر على الرابط التالي:
(10) ابراهيم محمد، “تحليل أضرار وتبعات كارثة قناة السويس على مصر والعالم”28مارس2021،وكالة الدويتش فيلا الألمانية.