القاهرة – (رياليست عربي): بعد ظهور صور حطام مروحية الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي”، وتضارب التصريحات الإيرانية طوال فترة البحث عنها ما بين هبوط المروحية هبوطًا اضطراريًا أو هبوطًا صعبًا مثلما وصفه الإعلام الإيراني، وتحطمها ووفاة مستقليها. إضافة إلى عودة المروحيتين المصاحبتين لمروحية الرئيس إلى قاعدتهما، وكان من المفترض أن تقوما بحماية الرئيس والوفد المرافق له.
نستطيع القول بشكل صريح إن الرئيس الإيراني تم تصفيته بمخطط داخلي، حاكه ونفذه إيرانيون، ولا علاقة لأية دولة أجنبية بهذا الحادث. حتى إذا كانت إسرائيل –كما يشير البعض– ضالعة بشكل أو بآخر في هذا الأمر، فإن إيران قدمت رئيسها على طبق من ذهب إلى إسرائيل كي تقبض روحه بأناملها، مع استقلال رئيسي مروحية قديمة، أجهزتها معطوبة، بلا حراسة، تحلق في ظروف جوية سيئة، وفوق منطقة جبلية متشابكة وواعرة التضاريس.
وأعول وجهة نظري في الأمر على عدة أسباب، أُجملها فيما يلي:
أولًا: قضاء وقدر
قبل العثور على مروحية إبراهيم رئيسي محطمة، عمد الإعلام الإيراني إلى نشر أخبار ومقاطع مصورة عديدة توضح سوء الأحوال الجوية والمنطقة الجبلية الوعرة التي فُقدت فيها المروحية، وذلك تمهيدًا لإثبات نظرية الحادث القدري وتأكيدها. نعم إن كل شيء بيد الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يتكهن بما سيحدث له بعد لحظة واحدة، لكن إذا كانت الأحوال الجوية سيئة، فكيف نجت المروحيتان الأخريان المرافقتان لمروحية الرئيس الإيراني؟ ولمَ لم تقوما بعملية إنقاذ جوي لرئيسي قبل سقوط مروحيته؟
من المعروف أن المروحيات أو الطائرات المصاحبة لطائرة رئيس الجمهورية تكون مهمتها الأولى حماية الرئيس من أي الخطر أو أية محاولة ترصُّد أو تصيُّد جوي، وتحلق عادة على جانبي طائرة الرئيس أو أمامها وخلفها تحسبًا من تعرض الطائرة الرئاسية لأي تهديد أو خطر. وإذا استشعرت هذه الطائرات أي شيء مريب، تقوم بعملية إنقاذ أو نقل جوي للرئيس في حال حدوث عطب في محركات الطائرة الرئاسية أو استهدافها من قبل جسم مجهول.
أما ما حدث مع مروحية الرئيس الإيراني كان على العكس تمامًا، فقد تركت المروحيتان المكلفتان بحماية الرئيس، وعادتا إلى قاعدتهما كأن لديهما تعليمات بذلك مسبقًا. وهو ما يستدعي فتح تحقيق موسع عما حدث، وكيف تركتا مروحية الرئيس تهوي على الأرض، ولم تهرعا إلى نجدتها.
ثانيًا: عملية أجنبية
مروحية إبراهيم رئيسي سقطت بسبب عطل فني أو عملية انتحارية من قبل الطيارين، ولم تُستهدف بصاروخ أو مُسيرة مفخخة من داخل الحدود الإيرانية أو خارجها، لأن لو كان هذا ما حدث، كانت المروحية ستنفجر في الهواء، ويتناثر حطامها في مناطق متفرقة فوق الجبل، لكن الصور الملتقطة تُظهِر سقوط المروحية من الجو في خط مستقيم، وتدحرجها في بطن الوادي إلى أن تحطمت بالكامل، ولم يبقَ جزء سليم منها سوى الذيل. وبالتالي تصبح نظرية الاستهداف الأجنبي مستبعدة.


ثالثًا: شعبية رئيسي
يحظى إبراهيم رئيسي بشعبية واسعة بين الأُصوليين، ويعد واحدًا من جيل الثورة الأول وحراسها القدامى، تولى على مدار مسيرته الدبلوماسية مناصب رفيعة؛ كان من أبرزها النائب العام في طهران ورئيس السلطة القضائية، مما يصعب التعامل معه كما تعامل النظام الإيراني مع “مهدي كرُّوبي” رئيس مجلس الشورى (البرلمان) الأسبق، أو “مير حُسين موسوي” رئيس الوزراء الأسبق، أو “محمد خاتمي” رئيس الجمهورية الأسبق، المنتمين للتيار الإصلاحي، وينتهي به الحال مثلما انتهى الحال بثلاثتهم قيد الإقامة الجبرية أو الحظر الإعلامي، مما سيُحدِث بلبلة كبيرة في التيار الأصولي الذي يريد الاحتفاظ بهيمنته على مفاصل الدولة بعد إزاحة الإصلاحيين عن المشهد السياسي وتقويض تكتلهم. لذا تصبح تصفية رئيسي المغلفة بحادث قدري الخيار الأمثل للجميع.
رابعاً: إعادة إنتاج النظام وحفظ مكانة الأصوليين
مع تصفية إبراهيم رئيسي يعيد النظام الإيراني إنتاج نفسه من جديد في حُلَّة جديدة، فقد فشل رئيسي في حل المشكلات السياسية والاقتصادية التي واكبت فوزه في الانتخابات، وكذلك التي انتجتها سياسته الداخلية خلال سنوات حكمه الثلاث (٢٠٢١: ٢٠٢٤)، كانت منها سنتان شهدت إيران خلالهما مظاهرات حاشدة تُندد بالحجاب الإجباري ونظام الملالي ككل عقب مقتل الفتاة الإيرانية كُردية الأصل “مهسا أميني” على يد شرطة الأخلاق بسبب ارتدائها الحجاب بشكل غير مثالي. نضيف على ذلك أن رئيسي قد وصل إلى سُدة الحكم من خلال انتخابات شهدت أضعف نسبة مشاركة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، حيث بلغت ٤٠% فحسب. بناءً على ما تقدم، أصبح رئيسي وجهًا غير مرغوب فيه شعبيًا وسياسيًا. فعلى الصعيد الشعبي يمثل رئيسي امتداد التيار الأصولي المتشدد المبغوض من قبل الإيرانيين خاصة الأجيال الجديدة الساعية إلى التحرر من التشدد الديني والنظام الثيوقراطي بشكل عام. وعلى الصعيد السياسي، فقد فشل رئيسي في احتواء الأزمات التي واجهتها البلاد، وكذلك في تجميل وجه الأصوليين الدميم مثلما كانوا يرغبون، مما يهدد سيطرتهم الحالية على المناصب السيادية في الدولة كالقضاء والاستخبارات ومجلس الشورى.
خامسًا: قضية التوريث وخليفة المرشد
كان إبراهيم رئيسي المرشح الأوفر حظًا لتولي منصب المرشد الأعلى بعد “عليّ خامنئي” الطاعن في السن (٨٥ عامًا) والمصاب بسرطان البُرُوستاتة، وكان خامنئي نفسه من الدافعين برئيسي لتولي هذا المنصب، لكن على الجانب الآخر يسعى “مجتبى” نجل خامنئي المسيطر على وحدات مهمة في الحرس الثوري الإيراني إلى الحصول على هذا المنصب بعد وفاة أبيه، وهو المنصب نفسه الذي سعى إليه سابقًا “أحمد” نجل “الخُميني”، لكن أباه لم يحبذ ذلك مثلما لا يحبذه خامنئي أيضًا. كل هذا يجعلنا نقول إن هناك صراعًا غير مُعلن بين مؤسسة الرئاسة والحرس الثوري من ناحية، وبين عائلة المرشد وأركان النظام الإيراني ككل من ناحية أخرى. ومن ثم مع إزاحة رئيسي عن المشهد السياسي، يعود “مجتبى خامنئي” إلى صدارته ثانية، ويظهر في الأفق شبح التوريث مرة أخرى.
خلاصة القول.. هذه ليست المرة الأولى التي يتخلص فيها النظام الإيراني من رجاله، ومصير “إبراهيم رئيسي” لا يختلف كثيرًا عن مصير الرئيس الأسبق والسياسي المخضرم “هاشمي رفسنجاني” الذي كانت له يد بيضاء في تولي “عليّ خامنئي” منصب المرشد الأعلى بعد “الخُميني”، وانتهى به الحال عام ٢٠١٧ صريعًا في المسبح إثر تعرضه لأزمة قلبية، شكك في حدوثها أفراد أسرته.
واللافت للنظر أن عملية تصفية “إبراهيم رئيسي” لم يُخطط لها بحنكة ودهاء، حيث إنها تمت بمخطط صبياني وعشوائي، وخُلقت حولها روايات متناقضة وواهية لا يصدقها طفل صغير، مما جعل أصابع الاتهام تُشير إلى النظام الإيراني مباشرة، خاصة أن القيادة الإيرانية قد تعاملت مع وفاة رئيسي بهدوء مبهم وغير مفهوم، بدى واضحًا في مطالبة خامنئي من الشعب الإيراني بعدم القلق على إدارة البلاد عقب هبوط مروحية الرئيس وتعذر الوصول إليها، وكذلك حرصه على حضور مراسم الاحتفال بذكرى مولد الإمام “عليّ بن موسى الرضا” ثامن الأئمة الاثني عشرية يوم الاثنين 20 مايو المتزامن مع سقوط طائرة الرئيس، وكأن الجميع بما فيهم خامنئي كانوا يتوقعون مصير رئيسي أو على علم به.
أما عن مقتل “حسين أمير عبد اللهيان”، وزير الخارجية، و”مالك رحمتي” محافظ أذربيجان الشرقية، و”محمد عليّ آل هاشم” إمام جمعة تبريز، و”مهدي موسوي” قائد وحدة حماية رئيس الجمهورية، فيأتي في سياق رواية الحادث القدري الذي يروج له النظام الإيراني على اعتبار أن رئيس الجمهورية لم يكن مستهدفًا بعينه، وهذا الأمر نفسه يؤكد تورط النظام الإيراني في اغتيال “إبراهيم رئيسي”، فلمَ استقل وزير الخارجية ومحافظ أذربيجان وإمام جمعة تبريز مروحية الرئيس؟ ولمَ لم يقتصر ركاب المروحية الرئاسة على رئيس الجمهورية ومعاونيه وطقم حراسته الخاصة فقط؟

خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر