البصرة – (رياليست عربي): منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، شهد العالم منعطفًا حقيقيًا نحو نظام متعدد الأقطاب، إذ تسعى العديد من القوى العالمية إلى كسر الهيمنة الأمريكية التي استمرت لعقود على النظام الدولي. لقد أصبح من الواضح أن العالم الغربي يواجه تحديات غير مسبوقة، بعد أن كان يعتمد بشكل كبير على القوة العسكرية الأمريكية والتفوق العسكري الغربي.
اليوم، وبينما يحاول الغرب فرض عقوبات قاسية على روسيا الاتحادية، بات واضحًا أن هذه العقوبات لم تكن كافية لتقويض نفوذ روسيا أو كسر إرادتها السياسية، رغم الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا. في المقابل، تبدو روسيا مصممة على فرض قوتها العسكرية و ارادتها السياسية، مما أدى إلى تقويض فكرة القطب الواحد وفتح الباب أمام بروز قوى عالمية جديدة.
حيث تلعب روسيا الاتحادية دورًا محوريًا في إعادة تشكيل النظام العالمي. على الصعيد العسكري، أظهرت العملية العسكرية في أوكرانيا أن روسيا لا تزال قادرة على التحدي المباشر للنفوذ الغربي، سواء في أوروبا أو على المسرح العالمي. ورغم العقوبات الغربية المكثفة، فإن الاقتصاد الروسي استطاع التكيف بفضل التحالفات الجديدة والسياسات الاقتصادية المستقلة. تواصل روسيا تصدير الطاقة والموارد الحيوية لدول عديدة، مثل الصين والهند، مما يعزز من تأثيرها في النظام الاقتصادي العالمي.
علاوة على ذلك، تستفيد روسيا من قوتها الجغرافية السياسية الهائلة التي تمتد من أوروبا إلى آسيا. لقد أعادت موسكو تركيز سياستها الخارجية نحو الشرق، معتمدة على تحالفها الاستراتيجي مع الصين وشركائها الآخرين في آسيا، لتشكيل تحالفات اقتصادية وعسكرية قوية خارج نطاق الهيمنة الغربية التقليدية. مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون هما من أبرز هذه التحالفات التي تسهم في تعزيز دور روسيا كلاعب رئيسي في النظام العالمي الجديد.
وبالرغم من محاولات الولايات المتحدة وأوروبا لفرض عزلة اقتصادية على روسيا، تمكنت الأخيرة من إقامة شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية التي تدعم استقرارها الداخلي وتوسع تأثيرها الخارجي. إذ اتجهت روسيا لتعزيز علاقاتها مع الدول النامية في آسيا، أفريقيا، وأمريكا اللاتينية. هذا التحول أتاح لها الوصول إلى أسواق جديدة وفرص استثمارية، بعيدًا عن الأسواق الغربية التي تحاول تقويض اقتصادها.
وقد لعبت موسكو دورًا مهمًا في بناء نظام اقتصادي موازٍ من خلال التعاون مع دول مثل الصين، التي أصبحت الشريك الاقتصادي الأهم لها. فمن خلال مبادرة “الحزام والطريق” ومشاريع الطاقة المشتركة، أصبحت روسيا أكثر اندماجًا في الاقتصاد الآسيوي. كما استمرت في تزويد العديد من الدول بالنفط والغاز رغم العقوبات، مما جعلها عنصرًا أساسيًا في معادلة الطاقة العالمية.
وعلى الساحة الدولية، تستمر روسيا في التأثير على الملفات الأمنية والسياسية من خلال تدخلها في الصراعات الإقليمية والدولية. في سوريا، ليبيا، وأجزاء أخرى من الشرق الأوسط، تلعب موسكو دورًا رئيسيًا في دعم حلفائها وتشكيل موازين القوى. كما أن التدخل الروسي في أفريقيا، من خلال شراكات عسكرية واقتصادية، أسهم في تعزيز نفوذها في القارة، ما يجعلها قوة لا يمكن تجاهلها في النظام العالمي الجديد.
و في منطقة الشرق الأوسط، تلعب روسيا دورًا مؤثرًا في تشكيل التحالفات السياسية والاقتصادية. علاقاتها الوثيقة مع إيران وسوريا، فضلًا عن تعاونها مع دول الخليج في مجال الطاقة، تجعل منها لاعبًا رئيسيًا في استقرار المنطقة. وقد ساعدت موسكو في تقديم نفسها كبديل للقوى الغربية، حيث أصبحت شريكًا مهمًا في قضايا الأمن الإقليمي وحل النزاعات.
هذا الدور الروسي في الشرق الأوسط يعزز من موقع موسكو كطرف قادر على التوسط بين القوى المتنافسة وتحقيق التوازن في العلاقات الإقليمية. وقد أدى ذلك إلى زيادة أهمية روسيا في الساحة الدولية، ليس فقط كقوة عسكرية واقتصادية، بل أيضًا كقوة دبلوماسية قادرة على التأثير في القضايا الدولية المعقدة وتحرر تلك الدول من الهيمنة الأميركية والعنجهية الأنجلوسكسونية التي كانت قابعة على أنفسهم سنين طويلة .
ومع ظهور هذا النظام العالمي الجديد، يبدو أن الهيمنة الأمريكية تتراجع شيئًا فشيئًا، تاركة المجال أمام نظام أكثر توازنًا يعتمد على مراكز قوى متعددة. وروسيا، بقوتها العسكرية ونفوذها السياسي، تتصدر قائمة هذه القوى التي تعيد رسم خريطة العالم السياسية والاقتصادية.
في هذا السياق، تتطلع روسيا إلى بناء عالم متعدد الأقطاب يقوم على التوازنات الاستراتيجية والشراكات الدولية المتكافئة. كما أن هذا النظام الجديد يعزز من فرص الدول النامية والشرق الأوسط وأفريقيا لتطوير شراكاتها مع موسكو، ما يتيح لهذه الدول الاستفادة من الفرص الاقتصادية والاستثمارية بعيدًا عن الهيمنة الغربية.
ختامًا، روسيا ليست مجرد لاعب عادي في النظام العالمي المتعدد الأقطاب، بل هي قوة ديناميكية تقود تحولات جيوسياسية واقتصادية ستعيد تشكيل موازين القوى لعقود قادمة. قدرة موسكو على التكيف مع العقوبات الغربية، وبناء تحالفات جديدة مع قوى إقليمية ودولية، يجعلها عنصرًا أساسيًا في هذا النظام الجديد، الذي سيتيح للدول النامية فرصًا غير مسبوقة لتحقيق مصالحها وتطلعاتها.
خاص وكالة رياليست – عبد الله الصالح – كاتب وباحث ومحلل سياسي – العراق.