تخطى حجم النفوذ التركي في لبنان كل مراحل الخطر، وإن كان لم يكن الأمر وليد اليوم، مع الإشارة إلى واقعة سقوط مجموعة من العناصر التركية تحمل جوازات سفر مزورة في بيروت بيد الأمن اللبناني عام 2012، مرتبطة بأحداث الحرب السورية، فالتواجد التركي اليوم لم يعد عبر مجموعة عناصر، بل مجموعة شبكات صارت في هيئة كيانات وتيارات سياسية.
إستغلت تركيا إنسحاب السعودية بعد أن أغلقت بابها في وجه لبنان، وبدأت تركيا في ملئ فراغ السعودية، وصارت هي تجلس على المقعد الأول في تحريك إحتجاجات الشارع السني، وهناك الكثير من المشاهد التي تؤكد ما نقوله بداية من المجموعات التي واجهت جيش بلادها في منطقة العبدة بطرابلس وهي ترفع العلم التركي، مرورا بإستقبال السفير التركي في العبدة بإحتفال صاخب وكأنه المهدي المنتظر، وصولا لظهور عدد كبير من قيادات 14 آذار في إسطنبول خلال زيارات سرية لم يصفح عنها، بجانب كم الإحتجاجات الخارجة عن القانون والمنطق التي شهدها شمال لبنان ولم تكن تهدف لشئ إلا لعرقلة حكومة حسان دياب بالتزامن مع ما تتعرض له سوريا ولبنان على يد واشنطن إقتصاديا وتل أبيب عسكريا.
وكما كانت السعودية حاضرة في لبنان عبر سعد الحريري كذلك تركيا اليوم عبر شقيقه بهاء، فبهاء الحريري كان بين قوسين وأدنى من أن يكون وريث سلطة رفيق الحريري خلال محطات عديدة طوال العقد ونصف الماضي، بداية بظهوره الأول بعد إستشهاد والده، مرورا بوقت أن افتتح مكتبه الخاص المستقل عن عائلته في يونيو/ حزيران 2010، وصولا للفرصة الأكبر عندما إحتجزت السعودية شقيقه سعد بفندق الريتز كارلتون 2017، ومارست ضغطها على عمته بهية الحريري وزوجة والده نازك الحريري لمبايعة بهاء وهو الأمر الذى تم إجهاضه بعد رفض الرئيس ميشال عون لكل هذا العبث السعودي.
ولم يكن بهاء بحكم رعونته في حسابات أياً من الدول التي كانت تبحث وقتها عن بديل لسعد سوى السعودية، والآن تقول الساحة أن بهاء عاد من جديد ولكن ليس من البوابة السعودية، بعد أن سعى كثيرا في ركوب موجة إنتفاضة 17تشرين الماضي.
فإنطلق بهاء يؤسس لقاعدة شعبية له فذهب لكل خصوم شقيقه، وإستقطب كل من وقع من حسابات تيار المستقبل بالمال، الى أن وجد بهاء ضالته في محامي مثير للجدل اسمه نبيل الحلبي، فصار هذا الحلبي ذراع بهاء الأول إن لم يكن بهاء هو من صار ذراع لمخططات الحلبي، فسرعان ما تواصل نبيل الحلبي مع أعضاء سابقين بتيار المستقبل، والتنسيق مع الجماعة الإسلامية (إخوان لبنان)، ومع كل من لديه مشاكل مع شقيقه سعد، وبالطبع مع حزب الله، ومع كل لبناني شارك في الحرب ضد دمشق.
والجدير بالذكر هنا، هو أول ظهور لصاحب المنتديات المريبة في لبنان في 2011 مع عضو “المجلس الوطني السوري” المدعو عمر إدلبي في منزله ببيروت، وهو المنزل الذي منح له من تيار المستقبل وتحت إشراف العميد وسام الحسن رئيس شعبة المعلومات وقتها، كي تكون غرفة عمليات لوجستية ونقطة تخزين للسلاح الخليجي المتجه نحو حمص وعرسال عبر بيروت.
وبعدها أسس نبيل الحلبي “تنسيقية لبنان لدعم الثورة السورية” ثم “المؤسسة اللبنانية للديمقراطية وحقوق الإنسان” وهي من تولت مهام فبركة الفيديوهات وصنع الأكاذيب فيما يخص الحرب السورية، ونتذكر عندما أتهم نبيل الحلبي النظام السوري بإختطاف وتعذيب ومن ثم قتل “زينب الحصني”، منتحلا صفة الدفاع عنها بإعتباره وكيلها القانوني، قبل أن تظهر الفتاة نفسها على التلفزيون السوري، ويتضح أن صور الجثة المنشورة لا تمت لها بصلة ومفبركة على يد الحلبي.
الى أن جائت أحداث عرسال في أغسطس/ آب 2014 كي يظهر نبيل الحلبي بصحبة وفد “هيئة العلماء المسلمين” (سلفيين لبنان المرتبطين بإستخبارات الخليج) بحجة التفاوض مع داعش وجبهة النصرة لإطلاق سراح جنود الأمن اللبناني، وهو المشهد الذي يظهر دور تيار المستقبل كوسيط بين تلك التنظيمات الإرهابية ومن يمولها في الخليج.
بينما كان الأخطر بدور نبيل الحلبي في تمكين الموساد من تجنيد نشطاء سوريين، تم نقلهم فيما بعد إلى تركيا من أجل تدريبهم على التجسس وجمع المعلومات ونشر الإشاعات وفبركة الأكاذيب تحت أسم “نشطاء إعلاميين” و “إعلاميين حربيين”.
واليوم نبيل الحلبي هو مايسترو مظاهرات العنف في لبنان، فعشرات الدراجات النارية تتحرك بعد منتصف الليل وتحرق الممتلكات الخاصة والعامة في بيروت ثم تختفي كما تظهر فجأة لدعم أي مظاهرات تدخل في اشتباكات مع الجيش بالزجاجات الحارقة، وهي الدراجات التي تحمل أرقام مزورة، ومنها من يتخذ أصحابها عناوين سكنية لهم بين البسطا الفوقا وتحويطة الغدير.
وإن كان إتخذ بهاء الحريري من المحامي نبيل الحلبي مستشار سياسيا، فقد إتخذ من إبن إقليم الخروب “دانيال الغوش” المعروف بإسم “جيري ماهر” مستشاراً إعلامياً، وهو من البداية بوق لأجهزة إستخبارات خارجية.
فماذا يريد بهاء الحريري من حرق بيروت وعرقلة حكومة حسان دياب؟!
هل جر أرجل حزب الله لصراع داخلي لتأليب الرأي العام اللبناني عليه وتشتيته على جبهات إضافية أخرى غير جنوب لبنان وسوريا فقط؟
أم في حرق بيروت إنتقام من أهم أعمال والده، والثأر من من إنتزع الخلافة منه شقيقه سعد؟
أم كل ما سبق؟
فلا يوجد محتج غاضب من سوء الأحوال الإقتصادية يحرق بنوك ومصارف (عصب إقتصاد بلاده)، وممتلكات العامة، فكل ما شاهدته بيروت على مدار 10 شهور سابقة كان مفتعل ومدبر من الخارج بتنفيذ قيادات سياسية من الداخل، كحال كل ما شهدته بلادنا منذ 2011 وحتى الآن، بما فيها أزمة الدولار.
أخيرا وليس آخرا، كان بحكم المؤكد أن سعد الحريري صار كارت محروق لدى كل الأطراف في الداخل والخارج اللبناني مهما حاول أحد إعادة تدويره، فقد بات الأكثر تأكيدا أن لبنان نفسه قد يصير مثل سعد محروق وممزق بفضل شقيقه بهاء الدين الحريري.
وإن كان لبنان عاش لعقود تحت شريعة “إتفاق الطائف” الطائفي بعد ضرب الحضور الناصري هناك بفعل تأمر جنرالات الإحتلال وحلفائهم من القيادات اللبنانية، فالآن لبنان يستعد لطائف جديد ولكن في تلك المرة تركي وليس سعودي، على أمل أن يفلح بهاء في النهاية فيما لم يفلح فيه سعد وهو حرق لبنان بكل مكوناته وأولها حزب الله المستهدف الأساسي، وما كان مشهد إعلان النيابة العامة في بيروت بدء محاكمة الإعلامي “نيشان” بتهمة الإساءة إلى تركيا يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول، إلا دلالة جديدة لحجم النفوذ التركي في لبنان.
وإن كانت السعودية سعت كثيرا في تقديم بهاء للساحة وقت أن كانت تحتجز أخيه في الرياض، فمن المؤكد الآن أن خصوم السعودية (قطر وتركيا) هما المحرك الأساسي لبهاء، ويبدو أن الرعونة والتسرع لم تكن سمة بهاء وحده فقط، كي تسير تركيا في مخططها بالسيطرة على شمال لبنان ومِنْ ثَمَّ ربطه بالشرق السوري، وهو أمر يتم بالتنسيق بين المخابرات التركية والموساد.
ويبدو أنه لم يعد هناك دول تلعب دور إيجابي لصالح الدولة اللبنانية وشعبها سوى فرنسا ومصر كحال الوضع مع ليبيا، فكلاهما (فرنسا ومصر) غير مرتبط أيدولوجيا أو سياسيا بأي مكون داخل لبنان، وكلاهما لا يلعب بورقة الطائفية وله تاريخ جيد مع بيروت، ويدرك أهمية إستقرار لبنان للمنطقة، فيبقى لبنان ترمومتر الشرق الأوسط الذي بات على صفيح ساخن من ليبيا غربا وحتى إيران شرقا، ونتذكر كيف كان دور باريس والقاهرة، الدور الإيجابي الوحيد خلال أزمة إحتجاز سعد الحريري في الرياض.
من هنا نفهم طبيعة الرسالة التي تسلمها الرئيس اللبناني من نظيره المصري عبر سفير مصر في بيروت بداية الأسبوع الجاري، والتي أكد فيها السيسي حرص مصر على إستقرار لبنان ورفاهيته، والاستعداد لبذل كل جهد يمكن أن يسهم في رفعة الشعب اللبناني الشقيق واستعادته لعافيته، وعن أمله في أن تسفر المفاوضات التي يجريها لبنان مع المؤسسات المالية عن نجاح يقلل الأضرار الواقعة على الإقتصاد اللبناني.
خاص وكالة “رياليست” – فادي عيد وهيب – باحث ومحلل سياسي بشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.