ما زال اقتصادنا السوري يعاني من خبطات وضربات متلاحقة بهدف تهديمه وتدميره على كل الأصعدة، فمن النظريات الفاشلة التي حاولت الحكومات المتعاقبة تطبيقها خلال العقدين الأخيرين، إلى القرارات الاقتصادية الفاشلة والمدمرة التي قضت على مقومات الاقتصاد السوري الزراعية والصناعية، إلى قانون العقوبات “قيصر” وتداعياته المتعاقبة، إلى سياسة “إفقار الجار” التي اتبعتها تركيا ما قبل الحرب بشكل شرعي، ثم تابعت عليها وبشكل غير شرعي خلال الحرب وحتى اليوم، ومن المعروف أن سياسة “إفقار الجار” لها تداعيات سلبية جداً في الأزمات.
ما هي سياسة “إفقار الجار” في الأزمات الاقتصادية؟
إن سياسة “إفقار الجار” عبارة عن استخدام وسائل اقتصادية متعددة تعمل على تسهيل عمليات التصدير إلى الدول المجاورة وتقليل الاستيرادات منها، وبمعنى آخر تعمل سياسة “إفقار الجار” على صنع انتعاش اقتصادي ذاتي على حساب دول الجوار.
ومن أهم الأدوات الاقتصادية المستخدمة لسياسة “إفقار الجار” سياسة سعر الصرف الاجنبي، حيث تعمل الدولة على تخفيض قيمة عملتها مما يجعل صادراتها أرخص بنظر مواطني الدول المجاورة واستيراداتها أغلى ثمناً من وجهة نظر مواطنيها.
وكذلك من أدواتها استعمال سياسات الضرائب الجمركية بتخفيضها على السلع المصدرة نحو الخارج ورفعها على السلع المستوردة نحو الداخل مما يشجع التصدير ويثبط الاستيراد.
وتهدف سياسة إفقار الجار الى تعظيم الرفاهية الاقتصادية للمجتمع المحلي على حساب الدول الأخرى.
ويأتي استعمال الأدوات المذكورة لتلك السياسة لغرض زيادة الإنتاج المحلي من السلع القابلة للتصدير بالدرجة الاولى وتوفير فرص العمل للعاطلين من خلال توظيفهم في تلك الصناعات او المجالات الزراعية الموجهة نحو الخارج وغيرها، وبذلك فإن البلد الذي يستخدم هذه السياسة ينقل مشكلة الركود في القطاعات الانتاجية وانتشار البطالة الى بلدان الجوار.
فهذه السياسة إذن تعمل على زيادة الناتج المحلي للدولة عن طريق الحد من الاستيرادات وزيادة طلب الدول الأخرى على صادراتها مما يفاقم الركود في تلك الدول.
إفقار الجار السوري ما قبل الحرب:
بدأت السياسة التركية تلعب دورها الهادف إلى “إفقار الجار” السوري، عبر إغراق السوق السورية بالبضائع التركية كالملبوسات والمفروشات والرفاهيات، عدا عن الدراما والثقافة التركية المستجلبة، وكان هذا الأمر سبباً رئيساً في تراجع القطاع الصناعي ما قبل الحرب، خاصة مع توفر المستوردات التركية بأسعار منافسة بحكم الرسوم الضريبية المنخفضة مما يجعل سعرها مقارباً أو أرخص من البضائع المنتجة محلياً، والتي تزيد قيمة تكلفتها بسبب الرسوم الجمركية المرتفعة على المواد الأولية وقطع الغيار والرشاوي المدفوعة للجهات التنظيمية التي تعيق ترخيص الأعمال والاستثمار وغير ذلك مما يدخل في كلفة المنتج النهائي الذي يتحمله المستهلك.
ومن الجدير بالذكر أن كثيراً من البضائع التركية كان يتم تسريبها بشكل شرعي وبدون رسوم جمركية من خلال حركة انتقال الأهالي بين سورية ولواء الاسكندرون، والذين تربطهم قرابات عائلية، فتذهب العائلات السورية إلى تركيا لزيارة الأصدقاء والأقرباء، وتعود محملة بالبضائع التركية على اعتبار أنها بضائع للاستعمال الشخصي ولكنها كانت تستخدم بنسبة كبيرة في التجارة غير الرسمية، ضمن ما يندرج تحت مصطلح “تجارة اظل” أو “اقتصاد الظل”.
فالأمر لا تتحمل وزره القيادة السورية بقرار انفتاحها على تركيا، لأن قرار الانفتاح كان له أسبابه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ضمن رؤيا استراتيجية للسيد الرئيس بشار الأسد في تطوير العلاقات السورية الدولية، وتوثيق العلاقات مع سكان لواء الاسكندرون المحتل من قبل تركيا منذ بدايات القرن العشرين، باعتبارهم سوريو الأصل، إلا أن مكر الرئيس التركي أردوغان وفشل الفريق الاقتصادي السوري وتآمر بعض المسؤولين فيه، وعدم وعي السكان المحليين ساهم بالتمهيد لنجاح سياسة “إفقار الجار” التي اتبعتها تركيا في مواجهة سورية في مرحلة الحرب.
إفقار الجار السوري في فترة الحرب:
لعبت الحرب لعبتها مع الاقتصاد السوري، فمن تدمير المناطق الصناعية وسرقتها من قبل نظام أردوغان، ما أدى إلى توقف الإنتاج، إلى سرقة المحاصيل الزراعية أو حرقها في منطقة الجزيرة السورية وإدلب وريف حلب، ثم السيطرة على المعابر الحدودية واحتلال مناطق حدودية من قبل الأتراك من جهة أو الأمريكان وقسد من جهة أخرى، مما سهل عملية نقل البضائع إلى هذه المناطق، ولكن هذه المرة تحت مسمى التهريب وليس الاستيراد، لعدة أسباب:
أولها غياب الدولة السورية عن هذه المناطق أو المعابر من جهة، واعتبار تركيا أو قسد أنها مناطق تابعة لها، وانشقاق نسبة كبيرة من السكان المحليين عن وطنهم الأم، فأصبحت هذه المناطق سوق تصريف كبيرة للبضائع التركية المهربة، وعلى رأسها الحسكة وإدلب ثم دير الزور والرقة، لتأتي حمص وحماه وحلب وريف دمشق فيما بعد.
الأمر الذي “زاد الطين بلة” هو وجود المهربين من أمراء الحرب، المسؤولين عن المناطق الفاصلة بين المناطق المحتلة والمناطق الخاضعة لسيطرة الدولة، والذين يقومون بتهريب البضائع التركية الموجودة في المناطق المحتلة إلى الداخل السوري، لتصل إلى الأسواق السورية بأسعار منافسة للبضائع المنتجة محلياً والتي تعاني من مشكلة ارتفاع التكاليف لعدة أسباب ذكرناها في أول المقال، وهذا يعني أن الحال إذا بقي كما هو فإن أي عملية إنتاج محلي لن تؤتي ثمارها على المدى القصير.
عدا عن أن تهريب البضائع التركية إلى الأسواق السورية بهذه الطريقة، يقابله تهريب الدولار اللازم لشراء هذه البضائع إلى خارج البلد، ما يساهم بانخفاض الليرة السورية مقابل الدولار بشكل متزايد.
ما الذي يجب فعله؟
أرى أن حملة مكافحة الفساد التي بدأ بها السيد الرئيس بشار الأسد ستؤتي ثمارها على مستوى الخونة أولاً والفاسدين ثانياً، وإن أخذت بعضاً من الوقت لتشابك الخيوط وتراكم الفساد على مدة سنوات الحرب.
وفيما يخص موضوعنا أرى أنه من الواجب أن توجه القيادة السورية ضربة قاضية للخونة والفاسدين والمهربين للبضائع التركية، والذين يساهمون بتدمير الإنتاج السوري، بالإضافة لإعادة دراسة كل القرارات التي صدرت في مجالات الاستثمار والصناعة والتجارة الخارجية لكشف القرارات التي تساهم بعملية إفقار الاقتصاد، سواء تم اتخاذها بدهاء متخذيها أو سوء إدارتهم، وأن يتم العمل على تفعيل مبدأ “الاعتماد على الذات” بالشكل الحقيقي الفعلي على أرض الواقع كي لا يبقى مجرد شعار مرفوع دون تنفيذ.
كما أنه من الضروري تفعيل المرافئ السورية المستثمرة بشكل حقيقي يجعلها وجهة السفن القادمة المحملة بالبضائع التي يحتاجها الداخل السوري، بشرط ألا يكون لهذه البضائع بدائل منتجة محلياً.
كذلك تفعيل الخطوط الائتمانية السورية الإيرانية، وكذلك الخطوط التجارية السورية الروسية، فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا نجد البضائع التركية حتى اليوم في الأسواق السورية، ولا نجد بضائع إيرانية أو روسية في مقابل ذلك؟ ومن هو المسؤول عن هذا الواقع؟
هناك أيدي خفية تعمل على عرقلة المبادلات التجارية بين سورية من جهة وإيران وروسيا من جهة أخرى، ويجب قطع هذه الأيدي من جذورها، وننتظر أن نرى نتائج حقيقية على أرض الواقع.
خاص وكالة “رياليست” – د. أحمد أديب أحمد – أستاذ الاقتصاد في جامعة تشرين السورية.