دمشق – (رياليست عربي): لعقود خلت، شهدت العلاقات الأمريكية الإيرانية تجاذبات بأوجه متعددة وضمن عناوين متفرعة؛ فـ الملف النووي وما ارتبط به من ملفات أمنية واقتصادية، لم يكن وحده مثار صراع بين واشنطن وطهران، بل ثمة تصدعات عنونت العلاقة بين الطرفين، جراء تصادم الاستراتيجيات الشرق أوسطية بينهما، وتحديداً في سوريا واليمن والعراق، لا سيما أن إيران صاحبة اليد الطولى في تلك البلدان، الأمر الذي جعل المسار السياسي التوافقي فيما بينهما مُكبلاً بجُملة من التحديات العصيّة على الحل، والانتقال بشكل جليّ إلى العناوين العسكرية المضبوطة بدقة، لكن تلك العناوين باتت قاب قوسين أو أدنى من الانفلات والتدحرج، خاصة بعد أن لجأت طهران إلى حرب الوكالة والضربات الخاطفة للمصالح الأمريكية في سوريا واليمن والعراق.
وعلى الرغم من إدراك واشنطن وطهران خطورة التدحرج نحو التصعيد العسكري، لكنهما يتعاملان حتى الآن وفق منظور استراتيجي يُبقي قواعد التوازن بينهما في حدودها الدُنيا، وذلك بطبيعة الحال محكوم بجُملة من القواعد السياسية والاستراتيجية التي تؤطرها التحالفات الدولية لكل طرف؛ فـ الولايات المتحدة تربطها علاقات راسخة مع القوى العربية الفاعلة وصاحبة التأثير في المنطقة، ولا يمكن للولايات المتحدة في هذا الاطار من تجاوز مصالح شركاؤها التقليديين، وتحديداً في جُزئيتي الأمن والاستقرار، والذي سيكون مهدداً بقوة في حالة المواجهة المباشرة بين الولايات المتحدة وايران، وفي نفس السياق فإن إيران أيضاً تربطها علاقات استراتيجية مع روسيا، الأمر الذي استثمرته طهران جيداً لا سيما بعد حالة العداء الأمريكي الغربي مع روسيا عقب الحرب الروسية في أوكرانيا.
ما سبق يجعل العلاقة الأمريكية الإيرانية وما يحكمها من ارتباطات وتحالفات، قائمة على معادلة شد الحبل بين الطرفين دون تصعيد يتجاوز الخطوط الحمراء، ودون مواجهة مباشرة، لتبقى ضمن ذلك الملفات العالقة بينهما دون تفاهم. ترجمة ذلك قد لا تكون إيجابية بالمعنى السياسي، وإنما حالة اللا تفاهم تُنتج بشكل مباشر حالة من اللا استقرار، إضافة إلى تباينات تنعكس حالة من التصعيد، وهذا ما تُفسره الاستهدافات المباشرة للقواعد الامريكية في سوريا والعراق، واستهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر، وما قابل ذلك من استهداف أمريكي إسرائيلي للقواعد الايرانية أيضاً في سوريا والعراق، الأمر الذي يُنذر في العمق باندلاع شرارة عسكرية بين الطرفين، تشمل عموم المنطقة.
طوفان الأقصى لم يشكل علامة فارقة في مسار الاستهداف والاستهداف المضاد بين الطرفين، فالقواعد الأمريكية ومثلها الإيرانية في العراق وسوريا، شهدتا خلال الأعوام الماضية حالة من الاستهداف المتبادل والمركز، إذ أن جوهر الاستهداف الأمريكي مرتبط بسياسات ايران في المنطقة، والتي تراها الولايات المتحدة وإسرائيل على السواء تهديداً لعامل الاستقرار، لكن المعطيات الجديدة التي أفرزها طوفان الأقصى قد لا يمكن احتواءها عسكرياً، فـ تصاعد وتيرة الضربات الايرانية للمصالح الامريكية في المنطقة، ما هي الا رسائل مباشرة بإطار تحذيري بالانتقال الى حالة الفوضى الشاملة، لا سيما أن الولايات المتحدة أيضاً أيدت ودعمت الضربات الإسرائيلية المتواترة التي تستهدف المصالح الإيرانية، خاصة سلسلة الاغتيالات المتوالية للقادة الإيرانيين في سوريا، بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية والسياسية على إيران والجماعات المتحالفة معها في المنطقة.
يعتقد الكثيرون بأن المواجهة الإيرانية الأمريكية ستكون حتمية، لكن ثمة إرادة سياسية قوية وواضحة لدى واشنطن وطهران بشأن الملفات الاقليمية الأكثر حساسية. صحيح أن التطورات الشرق أوسطية تزداد سوءاً ضمن قراءات محددة، وصحيح أن السياسات الغير متوازنة لا تُعالج حالة التصعيد بين واشنطن وطهران، لكن الصحيح أيضاً أن الحرب في غزة وايقافها لا يعني تراجعاً للتوتر وحالة المواجهة بين واشنطن وطهران، لكن قد تكون هذه الحرب بوابةً للانتقال إلى مرحلة أكثر خطورة أشبه ببرميل بارود قابل للانفجار بأي وقت، طالما أن التسويات بعناوينها الكبرى لم تتم بعد.
وبصرف النظر عن حملة التحليلات التي توازيها حملة اعلامية ممنهجة تُحددها نوايا واشنطن بتوجيه ضربة عسكرية ضد المصالح الإيرانية، لكن الولايات المتحدة تتفادى ربط ايران بشكل مباشر بـ استهداف قواعدها، لأن ذلك سيعرضها لانتقادات وضغوط كبيرة تطالب بمواجهة إيران بشكل مباشر، فـ الواقع يؤكد بأن واشنطن لا تريد مواجهة طهران في المرحلة الراهنة، لأن إطلاق رصاصة الرحمة على علاقاتهما المتأرجحة بين حالتي اللا سلم واللا حرب ستكون بمثابة إضرام النار في خزّان بارود المنطقة، مما قد يعرض المصالح الأميركية للخطر.
بهذا المعنى فإن الحرب الاسرائيلية في غزة والدعم الأمريكي غير المحدود لها، جعل محور واشنطن في مواجهة مركبة مع محور إيران، فـ تزايُد الهجمات على المصالح الأميركية بالمنطقة يرسل رسالة واضحة مفادها أنه لا أمن لهذه المصالح عقب العدوان الإسرائيلي على غزة والذي يحظى بدعم أميركي واسع، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام مواجهة واسعة. نتيجة لذلك، فان الطرفين الأمريكي والإيراني يتبنيان ضمناً سياسة شد الحبل بما يضمن عدم انقطاعه وضمان عدم الانزلاق للمواجهة المباشرة، والاكتفاء بالمناوشات المدروسة القائمة على أهداف محددة، والأهم ابقاء باب التسويات بينهما موارباً لاي تفاهمات قد تفرضها طبيعة المرحلة، لا سيما أن حالة التصعيد والتهدئة ترتبط بقدرة كل طرف على تحقيق معادلة التوازن. لكن ضمن ذلك قد ينقطع الحبل بينهما ويختل التوازن، فتغدو المنطقة ضمن خطوط النار الأمريكية والإيرانية.
خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وباحث سياسي – سوريا.