بعد تواتر الأنباء القادمة من موسكو، عن إجراء تعديلات دستورية، ونقل صلاحيات رئاسية، وما شابه، على الفور تسارعت التكهنات والتحليلات والتصريحات، وتناثرت شرقاً وغرباً، ولم ينتظر أحد حتى يتبين الأمر، ولم يطل الانتظار كثيرًا، وجائت البينات بأن جوهر التعديلات الدستورية هي، إلغاء تحديد فترات الرئاسة في روسيا، مع بعض التعديلات الأخرى التي لم يلتفت إليها أحد.
وهو ما بات وجبة دسمة لكل منبر إعلامي، سواء مقروء أو مرئي، أما على ساحة الانترنت فحدث ولا حرج، الكل تسابق يعرض وجهة نظره، التي تتلخص في أن بوتين يقوض ما تبقى من ديمقراطية روسية هشة، ويعلن أنه باق في سدة الحكم إلى ما لا تعلمون!.
لم ينتظر أحد رأي الشعب الروسي، صاحب الأمر والقرار الوحيد في هذا الشأن، والذي سوف يدلي برأيه في استفتاء عام، بل وكأن لا وجود لهذا الشعب على الإطلاق، إلا من خلال أبواق المعارضة، التي سارعت واستنفرت قواها رافضة لهذا الأمر، وهكذا تشكلت موجة تسونامي عالية، ليست فقط رافضة لهذ الأمر، بل ومانعة لأي رأي أو فكر أو توجه، يؤيد استمرارية بوتين في حكم روسيا، بعد انتهاء فترة رئاسته الحالية، وأن أي محاولة تأييد هي كما نقول بالمصري “تطبيل” فارغ لبوتين.
في الداخل الروسي، يحلم الكثيرون بتبادل للسلطة ديمقراطي، على غرار الدول الغربية المجاورة لهم، وهذا حق لهم لا اختلاف عليه، لكن للصورة أبعاد أخرى، فكل يرى حسب مرمى رؤية إبصاره، والصورة الأفقية تختلف تماماً عن المشهد الرأسي، فإن كنت ترى الصورة من خلال رؤيتك الشخصية، وما توفره لك وسائل الإعلام أيا كان مصدرها وممولها، أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي، فهي بدون شك تختلف مثلاً عن المشهد الذي تراه أجهزة الاستخبارات، التي تقيس الأمور بمقاييس ربما لا نعرفها نحن.
وما سوف نطرحه هنا ليس مداهنة للرئيس الروسي، بل محاولة منا للوقوف على بعض الأمور. ولنبدأ بسؤال بسيط في مظهره عميق في جوهره:
ما هي الأخطار الآنية والمستقبلية التي تواجه روسيا؟
سوف تتعدد الإجابات، بل وسوف تشمل إجابات تسخر من السؤال في حد ذاته، ولكن حتى نجيب على هذا السؤال بعين ترى الصورة من بعيد واضحة، يجب أن نعلم أن كل محاولات التقارب مع الغرب، التي انتهجتها روسيا منذ عودتها بائت بالفشل، فالغرب لن يقبل بروسيا شريكا أو صديقاً، إلا في حال الضعف، وطلب المساعدات، أما أن تكون روسيا قوية فهي “عدو”.
وهذا الأمر ليس بالخفي على أحد، ونتذكر على سبيل المثال لا الحصر رئيس الاستخبارات المركزية الأسبق “ليون بانيتا”، والذي قال بالحرف “أسوء يوم في تاريخ الرئاسة”، في مقابلة مع سي إن إن واصفاً لقاء بوتين ترامب، وأضاف: “ رئيس الولايات المتحدة، الذي انتخب للدفاع وحماية أمريكا من خصومنا، وقف بجانب خصمنا”!!!
مثال آخر، ولكن على المستوى الشعبي، أجرت وكالتي “رويترز” و “إبسوس” الأمريكيتين، استطلاعاً للرأي حول موضوع “العدو الأول لأمريكا في العالم”، وللأسف أتت روسيا في المرتبة الأولى، ومن بعدها إيران.!!!
أما السياسة الخارجية والدفاعية الأمريكية، فقد استقرت أخيراً على أن المنافسة مع روسيا، بالإضافة إلى الصين، هي أكبر التحديات الوجودية للأمن القومي الأمريكي، فقاعدة إيجاد عدو هي ركن ثابت في سياسة الولايات المتحدة، وأمر لا غنى عنه لتحقيق أهداف داخلية وخارجية عدة، حتى لو لم يناصبها أحد العداء، سوف تختلق عدواً، فأمريكا لا يمكن أن تعيش بلا أعداء، حتى لا تندثر الصناعات الدفاعية الهائلة، وبدون خطر خارجي يتم تسويقه، سوف يكون من الصعب تمرير وتبرير قرارات، وسياسية داخلية وخارجية أمريكية كثيرة.
أما العقوبات الأمريكية والأوروبية المتصاعدة كل فترة، فحدث ولا حرج، كيف تضرب الاقتصاد الروسي بقسوة وعنف منذ عدة أعوام.
هذا فيض من غيض، من التحديات الخارجية الروسية، التي لا تكفي مجلدات لسردها كاملة، أما التحديات الداخلية، فهي كما أراها تتمثل في تنمر بعض الجمهوريات الروسية، انتظاراً لضعف قبضة الدولة المركزية، لكي تتمرد وتنشق عليها، وترفع السلاح في وجهها، والداعمون موجودون، والمليارات جاهزة، بالإضافة إلى المجاهدين!.
ولا يفوتنا المشهد الخطير في الشرق الروسي، حيث الكثافة السكنية القليلة في مناطق مثل، “فلاديفوستوك” و”أركوتسك” و”نوفوسيبرسك” وغيرها، حيث تسرب عبر الحدود الطويلة أعداد لا يستهان بها من الصينيين وغيرهم، واستوطنوا تلك المناطق، حتى تاه الوجه الروسي التقليدي بين الوجوه الصينية والكورية، وتغيير التركيبة الديمغرافية أمر شديد الخطورة!.
ما ذكرناه هو ما استطاعت عيوننا أن تراه، وهناك تحديات أخرى كثيرة تواجه البقاء الروسي، فهل يستطيع شخص مثل “أليكسي نافالني”، أن يقود السفينة الروسية وسط هذه الأنواء العالية، التي تتربص بها الدوائر، ولن ترحم منها أي لحظة ضعف أو هوان؟
بوتين ضرورة .. نعم بوتين ضرورة، فهو ربان تطوع لقياد السفينة، وقت أن كانت الثقوب تزين قاعها، وتندفع المياه بداخلها، بل وكانت دفتها مكسورة، ونجح في لملمة الوطنيين من الروس، بعد أن كانوا شتاتاً منثوراً، وبهم سد كل ثقوب القاع، وتخلص من تحكم الاستخبارات الغربية في كل مفاصل الدولة، وصنع للسفينة الروسية دفة جديدة، ووقف رباناً قوياً أعاد لبلده هيبتها بين دول العالم، وبات الكل يخشى جانبه هو، فالمثل الشعبي العربي يقول “فرد يحيي قبيلة”، والفرد هو بوتين الذي أحيا القبيلة الروسية.
أما تبادل السلطة المطلوب في الوقت الحالي، في وجود المخاطر التي تحيق بوجود روسيا، فهو الثقب الذي سوف تنفذ من خلاله شياطين الأرض، وتضرب معاولها بنية الدولة القوية حتى تنهار، فهل ما يحدث بين الجمهوريون والديمقراطيون من صراعات في أمريكا، وصلت حد محاكمة الرئيس، ومحاولة عزله هي المبتغى لروسيا؟ أم ما حدث في انجلترا منذ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وما استهلكه من رئيسي وزراء اضطرا للاستقالة بعد الفشل، والعاب سياسية وقانونية ودستورية أضاعت الكثير والكثير!، ربما ديمقراطية نتانياهو في إسرائيل، وتمسكه بالحكم بطريقة ديمقراطية، درجة اجراء انتخابات متكررة عدة مرات، دون أن تتشكل الحكومة هي ما يتمناه الروس!.
الاستقرار والبقاء هما المطلوبان الآن، فروسيا حتى الآن مازالت في طور بناء مؤسسات راسخة، ولا ننسى أن عمر الدولة الحالية، بدأ مع بدايات الألفية الجديدة، أي عقدين فقط من الزمان بعد إنهيار كل الماضي.
الأستاذ مجدي حليم المصري- خاص وكالة “رياليست”