القاهرة – (رياليست عربي): تحل اليوم الثلاثاء، الذكرى الثامنة والأربعون لانتصار السادس من أكتوبر المجيد، هذا الانتصار الذي أذهل وأدهش العالم حتى يومنا هذا، فقد سطر الشعب المصري وقيادته التاريخ بحروف من نور، سوف تبقى إلى الأبد وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ذكريات ما قبل أكتوبر
أتذكر جيداً أن زجاج نوافذ المنازل والأبنية مدهون أو مغطى باللون الأزرق، وكانت نوافذ منزلنا مغطاة بالورق الأزرق الداكن، والبني الفاتح، وهو حال أغلب الشقق والمساكن، وكانت توضع أمام مداخل الأبنية أجولة من الرمل، أو بناء من الطوب الأحمر بطول المدخل وعرضه لحماية الداخل والخارج من أية إصابة قد يتعرض لها، وقد كان بين الحين والآخر يدوي صوت الطائرات بسرعتها الكبيرة وصوتها الرهيب، فقد كنت طفلاً صغيراً، أرتعد خوفاً من صوتها، وأهرول مسرعاً إلى الاحتماء بأمي (رحمها الله)، وكان شباب المنطقة عند حلول المساء يتجولون متطوعين، لتعبئة السكان والنداء عليهم كلٍّ باسمع بضرورة إطفاء الأنوار، وإغلاق النوافذ المفتوحة، وفجأة تدوي صافرة الإنذار بصوتها المرعب، وكانت مثبتة بسطح المنزل المقابل لنا، وهي تنبيه بأن هناك غارة جوية، يستلزم معها الهرولة بأقصى سرعة إلى الخندق الموجود أسفل المبنى الذي نقطن به، ورغم الهلع الذي يصيب الجميع من تلك الأحداث، فقد كان التجمع لجميع سكان مبنانا والأبنية المجاورة فرصة لتبادل الأحاديث والأخبار والتعارف، وبث روح الترابط الاجتماعي بين الجميع، سواء بين الرجال والنساء والأطفال، (فقد تنتابني شعور بالطمأنينة والألفة بأننا لسنا وحدنا، وإنما هناك الكثيرين معنا)، وبالمناسبة كان جدي يرفض النزول ومرافقتنا إلى الخندق، رغم إلحاح والدتي، فقد كان مثال للقوة والشجاعة، وكنت اتعجب منه ومن هذا الموقف (الشجاعة جزء أصيل في الشخصية المصرية)، وعند العودة إلى المنزل نجده مستغرقاً في النوم.
ومع زيادة الوعي والإدراك، علمت أن تلك الأحداث هي حرب استنزاف أعقبت حرب يونيو، والتي قامت بها القوات المسلحة المصرية بشكل متواصل ومستمر للإغارة على القوات الإسرائيلية، وكبدتها خسائر فادحة، تمكن فيها الجيش المصري من إعادة التسليح والبناء واكتساب الخبرات والمهارات القتالية بكافة الأسلحة والمعدات، التي قام المهندسون والخبراء بتطويرها (رغم استيرادها من مصادر مختلفة) وأن هذا التطوير والتحديث من جانب أبناء القوات المسلحة المصرية (أخي الكبيرملازم أول، ساهم في إصلاح أحد محطات الرادار القادمة من الاتحاد السوفيتي، وبعد قيام الزعيم الراحل السادات بطرد الخبراء الروس قبل حرب أكتوبر، والتي كانت جزء من الخداع الاستراتيجي، ورفضهم مدنا بأي قطع غيار وخاصة محطات الرادار).
ذكريات يوم السادس من أكتوبر
يوم السادس من أكتوبر وافق يوم السبت، وقد عدت من مدرستي الابتدائية والتي تبعد خطوات من منزلنا، فقد كنت استيقظ مبكراً للذهاب إليها، ومع انتهاء اليوم الدراسي، أعود مسرعاً إلى المنزل للنوم، حتى يحين موعد الغداء، وعودة والدي (رحمه الله من عمله) للتجمع جميعاً على الغداء، ولكن الذي حدث أنني استيقظت قبل الثانية ظهراً، وأتذكر جيداً أنني كنت أسمع صوت الراديو من المقاهي أسفل المبنى، ومن الشقق المجاورة، وبالطبع عندنا بالمنزل النشرة الإخبارية في تمام الثانية والنصف (النشرة الأساسية) بصوت المذيع أو المذيعة الجهوري الذي يصيبني ببعض الخوف من نبره إلقاء الأخبار والأحداث، وعند الثانية ظهراً وبعدها بقليل، سمعنا صوت الطائرات بشكل مكثف وهي تمر من فوق المبنى، والتي تهتز معها النوافذ والأبواب، وهرول الجميع لتشغيل الراديو بشغف وانتباه، والذي كان تذاع به الأغاني الوطنية، وبين الحين والآخر ينبه المستمعين بأننا في انتظار البيان الأول الصادر من القوات المسلحة، وكل كان في حالة ترقب للبيان رقم (1).
وأتذكر أن كلمات البيان كانت، أن قواتنا المسلحة قامت بضرب مطارات العدو، ونجحت في العبور إلى الضفة الشرقية من القناة وفي اقتحام خط بارليف المنيع، وكبدت العدو خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وقد رأيت الفرحة والسرور في وجه أبي وأمي وإخوتي والجيران، وخاصة الذين فقدوا ذويهم خلال حرب يونيو سواء شهيد أو مفقود.
وأتذكر أن الدراسة قد عطلت لعدة أيام، وعند عودتنا إلى الدراسة علمنا أن مدرسي مادة والعلوم والرسم قد تم استدعائهم إلى الحرب (أستاذ فايز) فقد كان أستاذ جميل خلقاً وعلماً، وأتذكر جيداً أنه عند عودته، كلفني بالقيام برسم عدد من اللوحات والرسومات (فقد كنت أجيد الرسم، كما كان يقول لي أساتذتي وزملائي – الشكر لهم جميعاً) عن حرب وانتصارات أكتوبر، وهو ما تم بالفعل وأقيم معرض بصالة العرض بالمدرسة كانت معظمها من لوحاتي للتعبير عن نشوة وفرحة انتصار السادس من أكتوبر بشعور الطفولة، دون إدراك ووعي كامل لأهمية هذا الحدث لعظيم.
واليوم، وبعد مرور ثمانية وأربعون عاماً على هذا النصر العظيم، تحية إجلال وتعظيم إلى أرواح شهدائنا من القوات المسلحة والمدنيين الذين ساهموا في هذا النصر العظيم، وتحية للقائد الزعيم أنور السادات، الذي عبر بمصر،الأمة العربية من الهزيمة والانكسار إلى الكرامة والانتصار والسلام، وأتذكر أنه في يوم ١٤ أكتوبر وجلسة مجلس الشعب الخالدة في حضور الرئيس الليبي معمر القذافي، لتكريم قادة الحرب العظماء، المشير أحمد اسماعيل (والذي صافحته في يوم تخرج أخي الضابط من الكلية الحربية) والجمسي والرئيس الراحل، حسني مبارك، والمشير، أحمد بدوي رحمة الله، عندما سأله السادات في حوار محفور في الذاكرة، هل السويس احتلت يا أحمد؟، وجاءت الإجابة: لم يقم العدو باحتلال السويس، ولم ينل منها شبراً واحداً، تحية إلى روح المشير الجنسي والفريق الشاذلي، سعد مأمون، وحسن أبوسعدة والمشير طنطاوي وكل القادة العظماء والجنود الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل انتصار أكتوبر العظيم.
روح أكتوبر
اليوم نستعيد الذكريات لاستلهام واستحضار روح أكتوبر في كل المجالات والأنشطة والقطاعات، روح التضامن والتضحية، روح السلام والمحبة والود، وأن ذكريات أصوات الطائرات وصفارات الإنذار، والتي للأسف ما زالت تدوي في سوريا والعراق وليبيا واليمن والأرض العربية المحتلة، ومناطق أخرى من العالم، من المؤكد أنها تصيب الأطفال والنساء وكبار السن والعجزة بالخوف والرعب والهلع، وعلى العالم في ذكرى أكتوبر تذكر الكلمات الخالدة للرئيس السادات في الكنسيت الإسرائيلي عن خسائر وضحايا الحروب وما تخلفه من أرامل ويتامى ومشردين ولاجئين، فقد كانت رسالة إلى الضمير العالمي الحر المحب للسلام، التي نأمل أن نتذكرها دائماً لنبذ الصراعات والكراهية، ونشر ثقافة الإخاء والتسامح والتعايش السلمي لنا وللأجيال القادمة.
خاص وكالة “رياليست” – د. خالد عمر.