موسكو – (رياليست عربي): بعد أن تم تخفيض التواجد العسكري الأمريكي في أوروبا قبل عقد من الزمن، أحيت الأزمة الأوكرانية عودة الولايات المتحدة الأمريكية بقوة إلى القارة العجوز، فإن لم يكن ذلك بشكل مباشر، كان ذلك عبر عقود تسليحية ضخمة، بزعم ضرورة ردع الجانب الروسي.
لقد سجلت الولايات المتحدة في السابق نشر أكثر من 60 ألف جندي في أوروبا، وأعادت مع بدء العملية العسكرية الخاصة ما يقارب الـ 20 ألف جندياً، بما في ذلك لواءان قتاليان متناوبان ومقر فرقة أخرى، تحت بند: “القوات البرية الروسية في المنطقة العسكرية الغربية تحافظ على تفوق حجمها على القوات المسلحة الإقليمية وقوات حلف شمال الأطلسي على الجانب الشرقي”.
وفيما يبدو أن ما وراء هذا التواجد، الإطباق التام على أوروبا والتحكم بها عن قُرب، فضلاً عن محاكاة مختلف الظروف التي من الممكن أن تستفيد منها واشنطن في التضييق على موسكو، إذ يشكل حجم القوات المسلحة الأميركية في القارة عاملاً رئيسياً في نفوذ الولايات المتحدة في مؤسسات حلف الناتو، وبدون التفكير الاستراتيجي الأميركي، الذي يشكل أساس الحلف، فمن المرجح أن يواجه الحلف صعوبة في تطوير سياسات وخطط عسكرية متماسكة، وإذا قررت الولايات المتحدة خفض مساهمتها، فإن ذلك من شأنه أيضاً أن يقوض الرسالة التي ترسلها الولايات المتحدة حالياً إلى حلفائها بأن هناك حاجة إلى مزيد من الاستثمار العسكري للحفاظ على الأمن في أوروبا.
البداية
بدأت واشنطن التنفيذ مباشرةً بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي في العام 2014، عندما نشرت أميركا وحلفائها في الناتو قوات إضافية على الجبهة الشرقية، وكانت بولندا المقر الأقرب لروسيا، وبعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، عززت الولايات المتحدة من تواجدها، وأصبح من الممكن إمداد أوكرانيا عسكرياً وتسليحها لمواجهة روسيا في المعارك الدائرة منذ 22 فبراير 2022، إلا أن الهدف الوحيد لواشنطن هو عسكرة أوروبا والتحكم الكبير في قرارات الدول الأوروبية وفرض الرأي الأمريكي عليهم.
بالتالي، إن كراهية روسيا، والتي تفاقمت بسبب الصراع الأوكراني بسبب التجييش الإعلامي الكبير، تعمل على تغيير دور أوروبا باعتبارها الحدود الغربية لأوراسيا، حيث أن تصور التوسع الروسي باعتباره تهديداً ودعماً للحصار الإسرائيلي على غزة، “المستورد” من الولايات المتحدة، يساهم في الأزمة، ما خلق أزمة أخرى بين شعوب الدول الأوروبية وحكوماتهم، وهذا ببساطة نتاج أمريكي واضح، خاصة وأن معظم الحكومات الغربية يعملون بجهد دون اكتراث لمواقف شعوبهم أو حتى المعارضة السياسية، من أجل تطبيق نموذج المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، إذ يحاول الساسة الأوروبيون ووسائل الإعلام الغربية التي تدعمهم تعزيز فكرة مفادها أن أوروبا تحتاج إلى التحول إلى دولة متشددة مثل الولايات المتحدة، في ظل انعدام الثقة والخوف السائد، والشعور الدائم “بالتهديدات الروسية”.
وما يؤكد عن وجود حالة من عدم اليقين بدأت تظهر بشكل واضح داخل القارة الأوروبية، بحسب استطلاعات الرأي التي أظهرت أن الكثيرين في أوروبا لا يثقون بالولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن هذه الاستطلاعات نفسها تشير إلى وجود عدم ثقة في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن هذا على الأرجح نتيجة للشحن السلبي المستمر في كبرى وسائل الإعلام الأوروبية التي تشوه صورته، ومع ذلك، هناك وعي بأهمية أوروبا باعتبارها الجناح الغربي لأوراسيا وترابطها مع روسيا.
وهذا بطبيعة الحال، سيولد أزمة جديدة تُضاف إلى أوروبا، وهي بدء احتجاجات مناهضة للحكومات على أقل تقدير، قد تستفيد أميركا من هذا الوضع بزيادة تدخلها وهذه المرة للمساعدة في كبح هذه الاحتجاجات ما قد يوطد التواجد الأمريكي من النواحي الأخرى، لتكون واشنطن بذلك قد أطبقت على أوروبا عسكرياً، والآن، اقتصادياً وأنهت اقتصاد كان قوياً إلى درجة كبيرة، والآن أصبح بحاجة الولايات المتحدة حتى في أصغر الأمور.
بالنسبة لروسيا، وبعد أن انكشفت مواقف الغرب والتحالفات الهشة ما قبل العملية العسكرية، عززت من تواجدها العسكري، وقاومت العقوبات التي فرضوها عليها، وبنفس الوقت من المفيد لها حالة انعدام الاستقرار في تلك الدول على الأقل حتى نهاية هذه الحرب، لكن هذا لا يعني أن الوضع إذا استمر على هذا النحو أنه مناسب لروسيا، خاصة مع خطط ضم بعض الدول إلى الاتحاد الأوروبي مثل مولدوفا وجورجيا، وهنا نستثني صربيا لأن مسألة ضمها من عدمه، لن تغير قوة العلاقات مع موسكو، فضلاً عن انضمام السويد وفنلندا إلى الكتلة الأطلسية، كل هذه عوامل ستدفع بروسيا إلى استخدام أوراق أكثر قوة، وأقواها نشر قوة الردع النووية على الحدود المتاخمة لأوروبا، وبنفس الوقت، تتميز السياسية الروسية ببعض الحكمة أي أنها لن تنجر إلى مواجهة مباشرة مع أي من الدول الأوروبية، مهما حاولت واشنطن ذلك، إلا في حالات صدام مباشر وهذا مستبعد على المدى المنظور.
بالتالي، تقوم الولايات المتحدة ببناء الإمكانات العسكرية لأوروبا، لوضع شركائهم بمواجهة مباشرة مع روسيا، وخلق حالة من عدم الاستقرار داخل الدول الغربية، لأن المصلحة الأمريكية تقتضي بأن تكون أوروبا ضعيفة، والمصلحة التجارية هي الأساس لهذا الوضع، لتحقيق كم كبير من الأرباح، وهذا يعني أن كل هذا بالتأكيد ليس من أجل الحرية والسلام والمساعدة المتبادلة.