لا يزال المشهد الليبي معقداً، إلا أن تعقيداته الحالية، تجعب من الحكومة الشرعية في البلاد، في موضعٍ لا يحسدون عليه، لجهة الإنتفاضة الجماهيرية من قبل الشعب الليبي، ضد حكومة الوفاق الليبية المدعومة من تركيا، لكن للحقيقة وجه آخر كشفته إستقالة فتحي باشاغا وزير الداخلية في حكومة فائز السراج.
صراع على السلطة
كحال كل دولة غير مستقرة تكثر فيها التدخلات، يطمح الكثيرون إلى تولي سلطة إدارة البلاد بحسب قوة الدول الحليفة لكل حالة، إنما في الحالية الليبية يبدو أن الظاهر لا يكشف عمق الصراع الدائر في ليبيا بين شرق وغرب فقط، بل بين أفراد الطرف الواحد نفسه، وعلى خلفية المظاهرات الشعبية التي إتخذت طابع القمع تحت سطوة السلاح، خرج وزير الداخلية فتحي باشاغا ليتوعد ميليشيات حكومته نفسها بإستخدام القوة إن إقتربت من المتظاهرين، هذا التلويح يبين حجم الهوة والشرخ الكبيرين بينه وبين فائز السراج، فجرتها الأوضاع الأخيرة في الداخل الليبي.
إذ أن تعرض المتظاهرين للرصاص الحي من قبل عناصر تابعة لحكومة الوفاق أمر خطير، رأى فيها باشاغا فرصة لإستمالة الشعب إلى صفه وكسب تأييدهم، خاصة وأن أحد أهم مطالب المتظاهرين هي “إستقالة ورحيل السراج”، في حين وزير الداخلية المستقيل وجه أصابع الإتهام إلى ميليشيات “النواصي”، الموالية للسراج التي اقتحمت ساحة الشهداء وقامت بطرد المحتجين بالقوة، وخطفت عددا منهم، كما هتفت ضد باشاغا، في مقابل ذلك أخلى مسؤولية أتباعه ممن يسمون بجماعة “بركان الغضب”، والتي أغلبها من مصراته وهي تتبع لتنظيم الإخوان المسلمين.
هذا الأمر أدى بطبيعة الحال إلى إقالة باشاغا، لكن بذات الوقت وضع القياديين من الإخوان في حكومة الوفاق بوضع حساس، لربما فتحي باشاغا فتح الطريق أمام السراج للتخلص من كل خصومه وخاصة الموالين لوزير الداخلية المستقيل.
تظاهرات دموية
خرج الشباب الليبي الثائر مطالباً بأبسط حقوقه، خاصة بعد أن تم قمعهم من قبل قوات السراج رغم خروجهم السلمي، حيث إعترضتهم ميليشيات السراج بالرصاص الحي وتم إعتقال العشرات منهم، الأمر الذي يؤكد أن هذه الحكومة الشرعية غير شرعية إذا كان شعبها يلفظها ولا يريدها، وبدل تحقيق مطالب الشعب، أوعز السراج لنزول قواته إلى الشوارع وقمع التظاهرات بالقوة، حيث يُفترض أن ما يحدث هو نتيجة لقرار رئيس حكومة طرابلس بشأن قمع الاحتجاجات في العاصمة حيث نزلت كتائب النواصي، وقوات الردع ومتشددون من الكتيبتين 301 و193 من حكومة الوفاق ومجموعة باب تاجوراء، إلى شوارع طرابلس لمواجهة المحتجين.
وبعد أن إتخذ الوضع منحىً دموياً، قام المحتجون على إختلاف شرائحهم الشعبية والأكاديمية والمناصرين للشعب الليبي بالتوقيع على عريضة لتقديمها إلى الأمم المتحدة، لسحب الإعتراف بحكومة الوفاق ومحاكمة جميع أعضاء المجلس الرئاسي والوزراء وكبار المسؤولين محليا ودوليا.
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل وضع المحتجون طلباً فحواه، أن الأمم المتحدة لا تساهم في تفكيك الميليشيات الإجرامية ونزع سلاحها. مشيرين بذلك إلى المادة 41 من الاتفاق السياسي الذي وقع علية مارتن كوبلر بصفته الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، والتي بموجبها يجب أن يتم ذلك في غضون 60 يوما.
خبرة تركية
أصبح واضحاً للعيان دور أنقرة في الملف الليبي، سواء كان في الشأن السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، ومن البديهي ألا تترك حكومة السراج تخسر أكثر من ذلك عقب إندلاع الإحتجاجات الشعبية التي وصفها البعض بالتظاهرات المليونية التي تريد حل حكومة الوفاق، فلدى تركيا خبرة واسعة في مسألة فض هذه التظاهرات وهي التي عاشت في العام 2015 إنقلاباً، تعاملت معه حكومة العدالة والتنمية بشدة كبيرة، فإمتلأت السجون التركية بالمعتقلين، عدا المنفيين والهاربين والمقتولين، وفي المسألة الليبية سارعت تركيا إلى إرسال تعزيزات لمساعدة حكومة الوفاق، حيث وصلت مجموعة من جهاز الأمن التركي إلى طرابلس، أما عن دور هذا الجهاز فحتماً القوة هي الفيصل في فض هذه التظاهرات.
بينما قطر فتحت هواء قنواتها لنشر الأخبار من وجهة نظر تحالفها مع حكومة الوفاق، من خلال شيطنة التظاهرات الليبية وتزييفها، في دعم واضح لحكومة السراج، حيث تملك الدوحة خبرة كبيرة في شيطنة الدول غير المتحالفة معها، كما حرفت معظم ثورات الربيع العربي إبان إطلاقها في العام 2011، وفتحت مطاراتها لقوات حلف الأطلسي – الناتو لقصف ليبيا وإسقاط نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي.
إلى ذلك، غادر رئيس حكومة الوفاق، فائز السراج مقر إقامته في العاصمة الليبية – طرابلس، إلى قاعدة معيتقة الجوية، بعد خروج الأمور عن السيطرة وإطلاق نار على مقربة من مكان إقامته. وتشير معلومات عن زيارة وفد أمريكي للقاعدة ولقائها للسراج لبحث التطورات الأخيرة.
من هنا، يبدو أن الأزمة الليبية ستأخذ منعطفاً جديداً بعد لفظ الشارع الليبي لحكومة الوفاق، إلا أن الخوف يكمن من إستبدال السراج بشخص على نفس النهج، أي حليف لتركيا وقطر، وبالتالي لن ينتهي الصراع على الإطلاق على الأقل في المدى المنظور، كما ان تركيا وبعد دخول قطر لن يسمحا بأن يكون هناك حلاً لا يتوافق ومصالحهما، وهذا الأمر يتماهى مع الموقف الأمريكي وبعض القوى الغربية الأخرى، إنما التطورات المتسارعة قد تغير معادلة الصراع الحالية، ليقف المجتمع الدولي عن إمكانية تقديم حل من شأنه دعم الجهة التي يريدها، وبالتالي، إذا ما إستمرت التظاهرات، فالأكيد أن القادم غير جيد لحكومة الوفاق وحلفائها معاً.
فريق عمل “رياليست”.