حراك دولي واسع بعد منح الثقة للحكومة الانتقالية الجديدة، وآخر للحكومة الليبية لتلبية دعوات خارجية، في أول زيارة رسمية منذ منحها الثقة إلى مصر يليها تركيا، ونوايا أوروبية لعودة فتح سفارتها في العاصمة الليبية، أخبار كلها تصب من حيث الشكل العام بصالح ليبيا الدولة بعد عقد من الحروب والاقتتال الدامي.
على الصعيد السياسي
لا يزال الدرب شائكاً وطويلاً أمام تثبيت الوضع السياسي وتفعيل الدور المؤسساتي في ليبيا، لكن الخطوات الأولى بدأت رسمياً ما بعد تشكيل الحكومة الانتقالية، فكانت باكورة أعمال هذه الحكومة زيارة جمهورية مصر العربية في أول زيارة رسمية لدولة عربية، ومن المعروف أن القاهرة متمسكة بوحدة ليبيا واستقلالها وتمتعها بجيش وطني موحد، هذا ما ذكره تحديداً الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقائه رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي في العاصمة المصرية، قبيل مغادرته لتلبية دعوة تركية في زيارة ظاهرياً تصب في مصلحة ليبيا، هي زيارة عمل تتعلق بشكل العلاقات التركية – الليبية الجديدة والخطوات الممكنة لتوسيع نطاق التعاون وتبادل وجهات النظر بشأن القضايا الإقليمية والدولية، لكن هنا لا بد من التذكير بأمر مهم جداً وهو أن الحكومة الجديدة تتماهى إلى حد كبير مع شكل حكومة الوفاق السياسي إبان تسلمها السلطات في البلاد، وبعد أن أعلنت تركيا ما جاء على وكالات إعلامية مختلفة، مفاده، أن (شركاتها ستضطلع بدور نشط في إعادة بناء ليبيا التي مزقتها الحرب، وقال رئيس الوزراء الليبي الجديد عبد الحميد الدبيبة إن الاتفاقات الاقتصادية التي أبرمتها حكومة الوفاق الوطني مع تركيا يجب أن تظل قائمة)، وبالتالي يُفهم من هذه الزيارة أن مسألة إعادة إعمار ليبيا هي الأهم حالياً بالنسبة لأنقرة، خاصة خلال الفترة المقبلة، إلى جانب أنها ضمنت أن الاتفاقيات السابقة لن تتغير بل ربما تتعدل بما يعود بالنفع على الجانبين، لكن تركيا الأكثر.
ما يدلل على الاستقرار السياسي الذي فتح الباب على مصراعيه بما يتعلق بالشأن الاقتصادي، هو أن الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر أعطى الإذن للسفن التجارية التركية بدخول موانئ شرقي البلاد، مع مراعاة البروتوكول الأمني، وذلك من خلال وثيقة صدرت عن هيئة الأركان العامة للجيش، والتي تقول: (ليس لدينا ما يمنع دخول السفن التجارية التي ترفع العلم التركي إلى الموانئ الخاضعة لسيطرتكم، وفق التشريع الحالي)، هذا تقدم كبير جداً إذا ما ربطناه بالمستجدات السياسية الأخيرة التي حصلت على الصعيد السياسي.
كذلك الأمر بما يتعلق بالحراك الأوروبي الجديد إلى ليبيا والحديث حول مساعدة البلاد حتى تستعيد مكانتها كدولة مستقلة ذات سيادة، من خلال السير في هذا الطريق إلى جانب دعمها من الناحية التنموية، هذا ما أكده وزراء خارجية كل من فرنسا، جان إيف لودريان، وألمانيا، هايكو ماس وإيطاليا، لويجي دي مايو، خلال زيارة مشتركة قاموا بها إلى العاصمة الليبية خلال وقت سابق، في أول مهمة دبلوماسية أوروبية رسمية بعد حوالي أسبوعين من تسلم الحكومة الانتقالية السلطة في البلاد.
على الصعيد العسكري
تواجه اليوم ليبيا تطورات كثيرة ستختبرها الحكومة الجديدة تباعاً، لعل أبرزها تنفيذ الاتفاق الرامي كما كنا تشير سابقاً حول خروج القوات الأجنبية، وبحسب المعلومات بأن الدفعة الأولى من المرتزقة السوريين، خرجت بالفعل، وفي طريقها إلى سوريا، في حين أن باقي العناصر ستعود في غضون أسبوعين، لكن المعلومات التي أدلى بها المبعوث الأممي يان كوبيش تتعارض مع هذا الأمر لجهة ثبوت تحركات للعناصر المسلحة على الخط الساحلي سرت – الجفرة من خلال إقامة تحصينات، إضافة إلى أن الميليشيات في العاصمة طرابلس لا تزال تضيق الخناق على المواطنين فيها وسط غياب منظومة الأمن بشكل كامل، ما رفع الصوت عالياً من أن هذه الأحداث قد تؤثر على العملية السياسية برمتها، وهذا من جهة.
من جهةٍ أخرى، تعقيدات بدأت تلاحق الجيش الوطني الليبي، من خلال بعض الخيانات التي تحاول النيل من هذا الجيش في وقت يعتبره الكثير من الليبيين أنه الضامن لبقاء هذا البلد وعدم تمترس القوى الأجنبية والميليشيات بشكل واسع كما كانوا يأملون، وبالتالي هذه الأمور بصرف النظر عن مدى حقيقتها، لكن كلها تقول إن مشوار الاستقرار الليبي لا يزال بعيداً، على الأقل في المرحلة الحالية.
الدور الأمريكي الجديد
من يتابع الملف الليبي، لا يجد الكثير من التصريحات الأمريكية حول هذا الملف سواء في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أو سلفه أوباما، وأما في العهد الجديد، بطبيعة الحال سبق وأن أقرت الإدارة الأمريكية سياساتها الخارجية بشكل عام، ومنها سياسة الشرق الأوسط، الجديد التي فيها بعض التفصيلات التي فرضتها الوقائع المستجدة منذ استلام الرئيس الأمريكي جو بايدن وإلى اليوم، سابقاً كانت قوات “أفريكوم” العاملة في أفريقيا، مسؤولة إلى حد ما بمتابعة شؤون القارة الأفريقية بما فيها ليبيا، خاصة بما يتعلق بالخصم الروسي، حالياً، يحاول بايدن التقرب من هذا الملف باعتدال، حيث بدأت العلاقات تتوسع من حيث التعاقد مع شركات أمريكية عديدة لتحسين الأوضاع الاقتصادية كانت تعمل على إنجازها الحكومة الجديدة، وهذا لا يعتبر أمراً ضخماً قد يخدم الولايات المتحدة، لكن هو مقدمة لإزاحة الخصوم من الأراضي الليبية وفي مقدمتهم روسيا، السياسة الأمريكية اليوم في ليبيا لا تهدف أساساً لتحقيق انتقال ديمقراطي، أو مساءلة، أو حتى معالجة الفساد، وإنشاء دولة ليبية بالتعاون مع أي جهة كانت، بقدر ما أن حقيقة الأمر، أن الاهتمام الأمريكي منصب أولاً وأخيراً على إقناع الأطراف السياسية المحلية والدولية في ليبيا بأولوية الأهداف والمصالح الأمريكية، فضلاً عن أن أمريكا مدفوعة بالرغبة في إقناع حلفائها والمنطقة ككل بأنها لا تزال القوة الأساسية بلا منازع والضامن الأساسي للنظام والأمن العالميين، يضاف إلى هذين الأمرين، أمر هام جداً وهو منع التوغل الروسي في البلد شمال أفريقي بشتى الوسائل الممكنة وهو ما تعتبره واشنطن أمر حيوي بالنسبة لها.
أخيراً، إن استقرار الوضع الليبي ظاهرياً وبدء الجولات العربية والأجنبية، وتوزيع الكعكة على القوى المنخرطة بهذا الملف، توضح أن الآمال لا تزال بعيدة عن استقلال ليبيا الكامل، ما دام هناك حفاظ على كل ما كان سابقاً في عهد حكومة الوفاق يعني أن المتغير الوحيد هو الشخصيات، بينما بقي الحال على وضعه، فإن لم تتوفر إرادة حقيقية وتعاون دولي خالٍ من الأطماع، لا يمكن القول إن ليبيا تعافت، ما يحدث اليوم من الممكن اعتباره أنه “استراحة محارب” وقد يتفجر الوضع في أية لحظة، الاستقرار الحقيقي يأتي بعد إجراء انتخابات نزيهة وحرة وإلى أن يحين ذلك يجب حل كل الميليشيات وإخراجها، أو الوضع لن يتغير مهما تم تجميله من قبل المجتمع الدولي والمنخرطين فيه.
فريق عمل “رياليست”.