عادت الأوضاع إلى التعقيد في الشمال والشرق السوري، خاصة من تنظيم قوات سوريا الديمقراطية – قسد، وممارساتها، إضافة إلى الفصائل الإرهابية الموالية لتركيا، وحالة الفلتان الأمني في مدينة ادلب ومحيطها، وسط مراقبة من تنظيم جبهة النظرة لكن دون أي تدخل وهذا الأمر له دلالات سنتطرق إليها.
عودة حلم “الإنفصال”
كانت تمارس قسد دوراً وظيفياً بحسب أوامر القوات الأمريكية، التي انكفأت عن مساعدتها منذ فترة تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن حتى اليوم، وهذا ظاهرياً لأن تصرفاتها الأخيرة تدل على أنها تتلقى دعماً كبيراً، لكن لا مؤشرات ومعلومات على تحديده وماهيته، إذ أن هذا التنظيم يعلم أن بايدن متعاطف مع القومية الكردية، وهو صاحب مشروع الفدرلة في كل من “العراق وأفغانستان”، الأمر الذي عزز شعور قسد بإحياء هذا الحلم رغم أنها لم تنظر بعين التحليل السياسي إلى تجربة أربيل في هذا الخصوص، وبالتالي، بدأ التنظيم مؤخراً تضييق الخناق على الشعب السوري في مدينتي الحسكة والقامشلي، حيث فرض حصاراً عليهما لأكثر من 20 يوماً من خلال قطع كل الطرق المؤدية إليهما، فضلاً عن منعه إدخال مادة القمح، الأمر الذي أوقف مخابز المدينتين الخاصة والعامة، حتى تدخلت روسيا وتم فك الحصار لساعات قليلة، ومن ثم عودته مجدداً.
قسد بهذا التصرف وبحسب محكمة الجنايات الدولية يعتبر كل من يمارس سياسات التجويع أو التعطيش “جريمة حرب” يحاكم عليها، فاتباع التنظيم لهذا الأمر له دوافع من جهتها، فلقد احتجت بأنها نصبت الحواجز لتفتيش الهواتف الذكية بحثاً عمن خرجوا بمظاهرات ضدها من عموم أهالي المدينتين، لكن الحقيقة أكبر من ذلك بكثير، فحرمان الدولة السورية من النفط الواقع تحت سيطرة قسد والقوات الأمريكية هو أيضاً يدخل في سياق جرائم حرب، لكن من سيحارب أو يواجه الولايات المتحدة الأمريكية المتحكمة بالعالم أجمع.
بالعودة إلى قسد، ومشروعها الانفصالي، إن ما تمارسه من سياسات تجويع يندرج في أنها تعمد لتضييق الخناق على السوريين ليغادروا المنطقة، وكون العرب السوريين هم الأكثر عدداً، تعمد قسد إلى إحداث توازن بعد إفراغ المنطقة من السوريين، لتقوى حجتها وأحقيتها بالانفصال والاستحواذ على حكم ذاتي خاص بها، فضلاً عن الخطف والتجنيد الإجباري وممارسات القتل والخطف والمداهمات التي تعتمدها في مناطق سيطرتها.
السيناريو القسدي
تعلم قسد أنها كانت صاحبة نفوذ في ثلاث مناطق رئيسية في سوريا لكنها شبه خسرت اثنان منها، في محيط عين العرب “كوباني” وفي عفرين ومحيطها، وبالتالي بقي لها المنطقة الأكبر حجماً والأخطر، والأهم لها من الناحية الاستراتيجية في مسألة تحقيق حلم الانفصال الذي تسعى إليه، فالحسكة تشكل ثقل قسد والأكثر تكتلاً بشرياً لها، وإن سيطرت عليها فهذا يعني خروج أعداء ومعارضي التنظيم من المعادلة السورية، والذي ستكون من نتائجه أنه سيفرز الآثار السلبية الكبيرة على سوريا والعراق وفي الداخل التركي والإقليم ككل، فالسيطرة على الحسكة هي تكريس مطلق للحضور الكردي من الشرق في سنجار – العراق، إضافة إلى أن السيطرة على مثلث الحسكة ـ القامشلي ـ المالكية أو ما يُسمّى (ديريك) باللغة الكردية في منطقة الشمال الشرقي لسوريا يعتبر مسألة حياة أو موت. وهذا الحفاظ سوف يحدّد مصير قيام الكيان الكردي بمختلف الأشكال المطروحة، وبالتالي خسارته تعني انتهاء الورقة الكردية في الحرب الدائرة في سوريا واحتراق أقوى الأوراق الأميركية في هذه الحرب، (طبقاً لوكالات).
ليس هذا فقط، إن السيطرة على الحسكة وما حولها، يعني السيطرة على ينابيع النفط وأكبر الحقول في سوريا، ما يؤمن الاكتفاء والاستقلال الاقتصادي للدولة الكردية التي تحلم بإقامتها، فضلاً عن التربة الزراعية الغنية التي تنتج أفضل أنواع القمح والقطن على المستوى العالمي، والثروة السمكية والمياه لمرور نهر الفرات فيها، كل هذه العوامل درستها قسد وتعلم تماماً أن السيطرة على هذا المثلث سيحقق حلم الدولة الكردية التي ستشجع كل من أكراد العراق ثانية وأكراد إيران وتركيا، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه من سابع المستحيلات أن تسمح تركيا بذلك، كذلك إيران حتى ولو حدثت حرب طاحنة تنهي التواجد الكردي من المنطقة ككل.
خيارات الدولة السورية
إن خيارات الدولة السورية لم تعد واسعة كون هامش الحركة أمامها محدود لأنها لا تسيطر على معظم المناطق، وهنا حرجت معلومات تتحدث عن التدخل الروسي في هذا الخصوص إذ لا تزال الأمور على طاولة المفاوضات، فما على سوريا اليوم إلا أن تصمد في المربع الأمني الذي تسيطر عليه، فالخسارة تعني خسارة الشرق السوري كله (مع الإشارة إلى أن لروسيا قاعدة عسكرية جوية في مطار القامشلي)، وعلى موسكو ان تقوم بالضغط على الحالمين من الأكراد أن يتراجعوا عن فكرة السيطرة على الحسكة لأن لا آمال لهم في إقامة كيان كردي مستقل في سوريا، فالصمود في هذه المرحلة هو هدم وإفشال للمشروع الكردي الانفصالي في المنطقة، وهذا سيكون من أعقد السيناريوهات التي من الممكن مواجهتها لكنه لن يكون أصعب من سيناريو داعش، فلقد اعتمدت القوات السورية سيناريو التطهير، وفعلاً بزمن قياسي استعادت السيطرة على طريق دير الزور – تدمر، فلن تكون الحسكة بأمر صعب، لأن الوضع أصبح خطيراً، خاصة ذلك الذي تفكر به قسد ومن يدعمها لمجرد إشعال الحرائق.
الشمال السوري
تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً صورة لزعيم تنظيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني (الفرع السوري لتنظيم القاعدة) باللباس المدني تجمعه بصحفي أمريكي بتاريخ 29 يناير/ كانون الثاني الفائت، لكن ماذا يعني أن يخرج الجولاني بصورة تمثل الكفار على حد تعبيره، وهو الجهادي رقم واحد والمطلوب دولياً والمصنفة جماعته إرهابية ومدرجة على لوائح الإرهاب العالمي؟ أيضاً لماذا خرجت الصورة من الولايات المتحدة ولماذا حددت واشنطن مبلغاً مالياً للقبض عليه، في حين أن صحفي أمريكي التقى به ولمدة ثلاثة أيام ولم يقطع رأسه ولم يحدث له شيء؟
هذه الأسئلة توضح مسألة الفلتان الأمني الذي يحدث في إدلب مؤخراً، إذ أن عمليات القتل والخطف والسرقة ازادت، وازداد اقتتال الفصائل الإرهابية المسلحة فيما بينها، وجبهة النصرة لم تتدخل ولم تفض الخلافات أو تعمل على حلها كونها المسيطر على المدينة ومحيطها، وبالتالي، بدأ سيناريو تلميع الجبهة لإسقاطها عن لوائح الإرهاب العالمي، ومن هنا خرجت صورة الجولاني باللباس (الكاجوال).
وعلق على هذا الموضوع الباحث في معهد بروكنغز الدوحة الخبير بالجماعات الجهادية السورية شارل ليستر بالقول: (كيف يتغيّر الزمن بين الأعوام 2014 – 2015 والآن)، هذا يدفع إلى تبني الفرضية التالية أن هناك خطة قطرية – تركية لتعويم هيئة تحرير الشام – النصرة تظهر مجدّداً عبر إظهار الجولاني على الإعلام العالمي والأميركي، خصوصاً بمنظر أقرب للرجل العلماني العادي من قائد منظمة مسلحة تدّعي الفكر الجهادي، وبالتالي تحويل هذا التنظيم وإسقاط كل جرائمه من تنظيم إرهابي، إلى تنظيم وادع ومسالم للاستفادة منه في مراحل متقدمة خاصة فيما يتعلق بالحل السياسي.
أخيراً، الأوضاع في سوريا خطيرة جداً، المشاريع أكبر من قدرة سوريا على تصديها، لكن كلما زاد الضغط، كلما زاد عمل الحلفاء، القضية الكردية هي الأخطر، حتى أنها اخطر من وجود مئات آلاف الإرهابيين في سوريا، لكن المعلومات الأخيرة تتحدث عن تعزيزات عسكرية سورية ضخمة وصلت إلى الحسكة حيث المربع الأمني الذي تسيطر عليه، فإن حدثت معركة هناك، فإنها فعلاً ستكون معركة حياة أو موت.
فريق عمل “رياليست”.