القاهرة – (رياليست عربي): ما أشبه اليوم بالأمس، هل ستندلع حرب بين أمريكا وحلفائها مع روسيا بسبب أوكرانيا، أم أنه سوف يتم احتواء هذه الأزمة التي تتصاعد حدتها بين لحظة وأخرى، كما حدث في الماضي في أزمة جزيرة كوبا، وكادت أن تندلع حرب نووية بسببها، ولكن تم الوصول إلى حل كان مُرضياً لجميع أطراف النزاع، وتجنب العالم حرب وكارثة عالمية، وقف العالم بسببها على أطراف أنامله.
اليوم يتكرر نفس السيناريو ، ويقترب العالم من حافة حرب خطيرة، إذا ما اندلعت، هذه المرة في أوكرانيا، فهل تندلع؟
تاريخياً، لا توجد حرب من أجل الحرب، إنما حرب لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية، أو النوعين معاً، فهل لمشروع خط الغاز الروسي إلى أوروبا دور في هذه الأزمة؟ أم أن روسيا تريد من خلال الحشد العسكري على حدود أوكرانيا، ممارسة الضغط لإبعاد حلف الناتو بعيداً عن حدودها؟

روسيا تحشد قوات كبيرة، وتواصل إجراء تدريبات عسكرية قرب حدودها مع أوكرانيا، وعلى أراضي حليفتها بيلاروسيا، وتنصب بطاريات صواريخ الدفاع الجوي “إس 400” المتطورة في بيلاروسيا، وأرسلت 6 سفن حربية لإجراء مناورات عسكرية بالبحر الأسود، كما أعلن وزير الدفاع الروسي، غداة لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فهل هذه دلائل على أن الحرب حتمية، أم أننا أمام سيناريو “خليج الخنازير”، مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث تحوّل الخطر إلى تفاهم؟
لا ينبغي النظر للأزمة الأوكرانية بمعزل عن التاريخ، أو بتجاهل الواقع الجيو –سياسي لأوكرانيا، باعتبار أنها كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي السابق، بل ثاني أكبر جمهورية سوفيتية وأوروبية بعد روسيا، من حيث المساحة، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على استقلالها، باتت الآن منقسمة بين شرق يتحدّث بغالبيته اللغة الروسية، وغرب يتحدث الأوكرانية، ومن ناحية جغرافية، يلعب موقعها دوراً مهمّاً في عبور إمدادات الغاز الروسية إلى دول غرب أوروبا، ورغم أنها مستفيدة مادياً من عائدات خط الإمداد الذي يمر من أراضيها، إلا أن هذا الواقع يضعها، في الوقت نفسه، تحت ضغط مصالح متباينة، ويجعلها حلقة وصل، ونقطة تجاذب بين توجّهين سياسيين مختلفين، في الشرق والغرب.
الأزمة الأوكرانية بهذا المعنى، مرتبطة بصراع أوسع بين روسيا والغرب، عنوانه الأبرز، ما تكرّره موسكو عن “توسع حلف الناتو شرقاً”، ويتضمن ذلك، محاولات الحلف ضم أوكرانيا، ودول أخرى لعضويته، بناء على طلبها، الأمر الذي ترفضه موسكو، ولا تكتفي بالرفض السياسي، إنما حدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الانضمام، كأحد سببين للحرب، أما ثاني الأسباب، فهو محاولة انتزاع شبه جزيرة القرم من روسيا بالقوة.
وهنا، يمكن القول إن الغرب يعتبر الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا، سبباً للأزمة، في حين تعتبرها موسكو نتيجة.
الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، يتحدّثون ويتصرّفون على أساس أن العمل العسكري الروسي في أوكرانيا وشيك، وأنه قد يحصل “في أية لحظة”. لكن روسيا، التي تنفي أية نوايا عدائية تجاه أوكرانيا، تكرّر مطالبها من واشنطن وحلفائها، بضمانات أمنية مكتوبة، بعدم توسّع حلف الناتو شرقاً، وبالتالي، عدم انضمام أوكرانيا للحلف أبداً.
الردود الواردة من واشنطن والناتو إلى روسيا الشهر الماضي، لم تُرضِ موسكو، التي أعربت عن تشاؤمها، موضحة أنهما لم يتجاوبا مع المباعث الرئيسة لقلقها، بينما قال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إن الرد الأمريكي على المقترحات الروسية، يقضي بإيجاد الطرق الدبلوماسية للتحرك إلى الأمام، مشيراً إلى أن الرد الأمريكي تم تنسيقه بشكل كامل مع الحلفاء وأوكرانيا.
في المقابل صرح وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، الذي أعاد إلى الأذهان تعهّدات الغرب في أوائل التسعينيات، بأن الناتو لن يتمدّد “شبراً واحداً شرقاً”، حمّل الغرب المسؤولية عن “محاولة التهرب من تنفيذ هذه الوعود حالياً”. لكن الحلف الذي لا ينكر وجود هذه التعهّدات، يقول إنها كانت شفوية فحسب.
وهنا، يبرز سؤالان منطقيان: هل دفاع الدول الغربية عن أوكرانيا، دوافعه المبادئ والقوانين؟ وهل يمكن الاطمئنان لتأكيدات موسكو بأنها لا تخطط لعمل عسكري ضد أوكرانيا؟

يكاد المحللون والخبراء، يجمعون على أن الإجابة في الحالتين، هي النفي، بعضهم يرى أن التحرّكات العسكرية الروسية، واحتمالات اندلاع الحرب، مدفوعة بأسعار الطاقة. ويعتقد مراقبون في الغرب، أن روسيا تستخدم قوتها كمورد للغاز، وترفع الأسعار، بهدف دق إسفين في المعسكر المؤيد لأوكرانيا. ربما لذلك، دعا الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ألمانيا، لوقف مشروع خط أنابيب بحر البلطيق “نورد ستريم 2″، في حال غزت روسيا أوكرانيا.
مكاسب وخسائر
حسب التقديرات، سيضاعف خط “نورد ستريم 2″، في حال تشغيله بطاقته الكاملة، حجم تصدير الغاز من روسيا إلى ألمانيا، إلى 110 مليارات متر مكعب سنوياً. وتخشى أمريكا وبولندا وأوكرانيا، استغلال موسكو لهذا الخط، من أجل مكاسب سياسية، وفي أذهانهم ما جرى في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حين أدى انخفاض تدفقات الغاز من روسيا إلى أدنى مستوى لها في ست سنوات.
ومن ناحية أخرى، ماهو الموقف بشأن التلويح الأمريكي والغربي، بعقوبات غير مسبوقة على روسيا؟
يقول خبراء غربيون، إن العقوبات لن يكون لها تأثير كبير، ويعتقدون أن روسيا قادرة على فرض نفوذها في أوكرانيا وغيرها من الدول المحيطة بها، وأن لديها أوراقاً اقتصادية وسيبرانية، فضلاً عن القوة العسكرية الهائلة، كما أنها تدرك أن واشنطن ودول الناتو، ليست على استعداد لإرسال قوات لتحارب في أوكرانيا، لا سيما أنه لم تمضِ سوى بضعة أشهر على الانسحاب الفوضوي من أفغانستان.
سيناريوهات محتملة
سيناريو التوافق أو الضغوط والعقوبات
يمكن في نهاية المطاف، وإذا لم يترجم التصعيد إلى حرب، لا بد من مخرج، كأن تعترف واشنطن بمصالح روسيا الأمنية في أوكرانيا، وتصر “لفظياً” على حق كييف في اختيار حلفائها في مدى بعيد. وبذلك، تكون الولايات المتحدة قد سلمت بنفوذ موسكو الإقليمي، في حين تسحب روسيا قواتها بعيداً عن حدود أوكرانيا، ولا تحاول تغيير نظامها السياسي المتحالف مع الغرب.
وإذا لم يحصل هذا السيناريو، فإن الغرب سيواصل سياسة الضغط السياسي والاقتصادي، مصحوباً بنشر مزيد من القوات العسكرية في دول الاتحاد السوفيتي السابق، وتستمر روسيا في الحشد والمناورات العسكرية، فيجد الغرب سبباً لفرض عقوبات قاسية، وبالتالي، قد ترد عليها موسكو بإجراءات “عسكرية وتقنية”، كما قال رئيسها فلاديمير بوتين، الشهر الماضي، كما أن الموضوع ليس أوكرانيا فحسب، ولكن أيضاً بيلا روسيا، فتوسع حلف الناتو بانضمام دول الاتحاد السوفيتي السابق وأعضاء حلف وارسو السابقين، هو الصراع الحقيقي مع أمريكا وحلفائها، وهو بمثابة قضية وجود لروسيا، فهل ستقبل روسيا والصين تأمل نفوذهم السياسي يوم بعد يوم أمام تمدد النفوذ الأمريكي والغربي؟
سيناريو الحرب
ماذا لو اندلعت الحرب؟ بناءً على آراء بعض المتخصصين شؤون الأمن والدفاع البريطانيين، رأى فيه أنه في حال شنت روسيا غزواً عسكرياً باتجاه كييف، فسيكون بوتين قد بدأ حرباً كبرى، لم يشهد العالم مثلها منذ الحرب على العراق في عام 2003، وأن وجود 100 ألف جندي روسي، يتمركزون قرب الحدود الأوكرانية، غير كافٍ لسيطرة على أوكرانيا بالكامل، وأن روسيا بحاجة لمضاعفة هذا العدد.
ويتوقعون أن روسيا يمكن أن تنتهي من توفير هذه القوة خلال أيام، لكنّهم يطرحوا تساؤلاً حول قدرة القوات الروسية على مواجهة عمليات مسلّحة داخل الأراضي الأوكرانية، بعد اجتياحها.
فربما يكون هذا ما يفكر به بوتين، فهل ستسمح التطورات اللاحقة لسيناريو كهذا؟
وهل الإمدادات الأمريكية والغربية التي ترسل كل ساعة سوف تسمح لروسيا بالسيطرة على أوكرانيا دون الدفاع والمقاومة؟
وعلنا نتذكر جيداً ما حدث أثناء الحرب الباردة، حين وصل العالم مطلع الستينيات من القرن الماضي، إلى حافة الحرب النووية، وظل على أعصابه طيلة 13 يوماً، بسبب أزمة نشر الصواريخ السوفييتية في “خليج الخنازير” بكوبا، على بعد 90 ميلاً من شواطئ فلوريدا الأمريكية. لكن الحرب لم تحصل، وتوصّل الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، إلى حل وسط، ولعل السيناريو نفسه يتكرّر في أوكرانيا.
التحليل والتعليق
أولاً، اندلاع حرب أمر مستبعد في الوقت الحالي، في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية والصحية التي يمر بها أغلب دول العالم، خاصة الأوضاع في أوروبا، وتطور الأحداث والوصول إلى صراع مسلح سوف يكون له عواقب وخيمة على الجميع؟.
ثانياً، الأزمة وطدت العلاقات والمصالح الاستراتيجية بين روسيا والصين ، والذي دفعهم للإعلان عن تحالف استراتيجي بينهم مؤخراً.

ثالثاً، برز الدور الفرنسي في تلك الأزمة، حيث تلعب فرنسا ومنذ فترة دور الوسيط والحليف بين الغرب والناتو والروس والصين، وهو الذي يؤكد على الدور المهم الذي تلعبه فرنسا بين حلف الأطلسي وروسيا، فهي رقم /5/ في مجلس الأمن، وهي المتحكم بين الأعضاء الأربعة الآخرين، وهو الدور الذي تلعبه فرنسا دائماً بكل براعة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ونشأة الامم المتحدة، فهي الحاكم والمرجح الوسط بين روسيا والصين من جانب، وأمريكا وبريطانيا من جانب أخرى، وهو مايؤكد عليه المسؤولين الأمريكيين دائماً، وهو ما صرح به الرئيس بايدن في أعقاب أزمة الغواصات بين فرنسا وأستراليا، حيث أن العلاقات التاريخية بين روسيا وبريطانيا تتسم دائماً بالتوتر وعدم الثقة، لذا، يبرز الدور الفرنسي عند حدوث أزمة بين أمريكا وبريطانيا.
ولا ننسى أن روسيا هي من أيدت وعززت حصول فرنسا على العضوية الدائمة في مجلس الأمن بعد التقارب بين ديغول وستالين، قرب ونهاية الحرب العالمية الثانية، وخلال مؤتمري طهران ويالطا بشأن تقسم وحكم وإدارة العالم بعد الانتهاء الحرب.
حيث اتفق أولاً على أن تقتصر إدارة العالم على الثلاثة المنتصرين وهم أمريكا وروسيا وبريطانيا، ومن ثم اتفق على ضم الصين بتاكيد من أمريكا وفرنسا بتأييد من روسيا، بعد اجتماع ديغول وستالين بخصوص هذا الشأن، خاصة وأن بريطانيا العدو التاريخي لفرنسا كانت تعارض انضمام فرنسا كعضو دائم بمجلس الأمن، ولعل ذلك يفسر الصراع الخفي الدائم بينهم.
وفي كل الأحوال والظروف، وإذا حدث تدخل مسلح أو لم يحدث، فالأمر بهذا الحال يساهم في زيادة التوتر السياسي في مناطق كثيرة حول العالم، وأيضاً توتر وعدم استقرار في الاقتصاد العالمي، وما نراه من ارتفاع في أسعار البترول والمحاصيل الزراعية، وتباين في أداء البورصات وأسواق المال العالمية وارتفاع نسب التضخم، مما يزيد الأوضاع العالمية صعوبة، ويزيد من أمد وتباطؤ التعافي من جائحة كورنا.
ونأمل أن يتسم الزعماء الدول الكبار بالحكمة والرشاد، والابتعاد عن المراهقة والمغامرات والمراهنات والصراعات السياسية، التي تحقق مكاسب وقتية، لأنها توجد مشاكل وأزمات على المدى البعيد، ونأمل أن تنتهي الأزمة الأوكرانية قريباً بسلام، كما انتهت أزمة خليج الخنازير في الماضي.
خاص وكالة رياليست – د. خالد عمر.