موسكو – (رياليست عربي): تتميز مصطلحات العلوم الاجتماعية عموماً بصعوبة الفهم والتعريف والقياس، والكثير منها يتمتع بجاذبية خاصة، كمفهوم العدالة؛ إذ لا يخفى على أحد الأثر النفسي للمفردات، فعلم نفس اللغة Psycholinguistics هو من التخصصات الهامة والعميقة في علوم اللسانيات. فجميعنا يكرر، بل ونتمتع بذلك، عبارات من قبيل: نريد تحقيق العدالة، العدل أساس المُلك، سيف العدالة لا غمد له، لا بد من تحقيق العدالة … إلخ.
ولكن ما إن نطرح الأسئلة: ما هي العدالة؟ وكيف نحققها؟ حتى نجد أنفسنا أمام صعوبات جمّة؛ تبدو العدالة بعدها من أكثر المفاهيم والنظريات تناقضاً! هذا على المستوى الوطني، أي في الدولة الواحدة، فما بالك عندما ننتقل إلى المستوى الدولي، حيث تبرز مفاهيم وحقوق أساسية أخرى، كالسيادة والاستقلال وحق تقرير المصير والانتماء الوطني وغيرها، وجميع هذه المفاهيم تتقاطع وتتخالف فيما بينها في العديد من الأبعاد؛ وهذا ما يفسر التشرذم الدولي في موقفها من المحكمة الجنائية الدولية.
تأسست المحكمة الجنائية الدولية سنة 2002 كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء. يقع المقر الرئيسي للمحكمة في لاهاي (هولندا) لكنها قادرة على تنفيذ إجراءاتها في أي مكان. وكما أسلفنا تفاوتت الدول في موقفها من المحكمة؛ فهناك الأعضاء وأعضاء لم يتم تفعيل عضويتهم بعد، كما أن هناك دول وقعت على النظام الأساسي للمحكمة ولكنها لم تصادق عليه بعد، و دول وقعت على النظام الأساسي للمحكمة لكنها سحبت توقيعها بعد ذلك، ودول أعضاء أو مراقبة في الأمم المتحدة لم توقع ولم تنضم إلى النظام الأساسي للمحكمة.
علاوة على ما سبق، فإنه يوجد معايير محددة لتعريف الإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. لذلك، ففي هذا العالم الذي تتصارع فيه المصالح والإرادات يصبح تفعيل عمل هذه المحكمة أمراً في غاية الصعوبة، ويخضع للتجاذبات السياسية بين الأطراف المعنية.
في الحقيقة، يطول البحث والدراسة في جميع القضايا المرتبطة بعمل المحكمة الجنائية الدولية، لذلك سنكتفي في هذه المقالة بالتعريج على حالتين، وهما ملفا أوسيتيا الجنوبية وسورية، وعنصر الترابط بينهما، أو بالأحرى عقدة العقد، واضح وجلي وهو روسيا. إذ تدخلت روسيا عسكرياً في أوسيتيا الجنوبية لمواجهة القوات الجورجية التي اجتاحت مدينة تسخينفال في أغسطس/آب العام 2008؛ كما أن روسيا، في عام 2015، أرسلت قواتها الجوية إلى سورية لمحاربة الجماعات الإرهابية هناك.
في الملف السوري، تتصاعد بين الفينة والأخرى دعوات العديد من الدول الأوروبية لإحالة هذا الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية، على الرغم من أن سورية لم تصادق بعد على النظام الأساسي للمحكمة. تبدو ألمانيا أكثر الدول حماساً في هذا الملف، إلا أن ألمانيا نفسها تعارض التحقيق مع إسرائيل في جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، بحجة عدم وجود دولة فلسطينية، حيث قال الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير في مقابلة مع صحيفة هآرتس بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2021: (موقف الحكومة الألمانية هو أن محكمة الجنائية الدولية، ليس لها اختصاص في هذا الموضوع بسبب غياب الدولة الفلسطينية).
إضافة إلى ما سبق، لا نرى من هذه الدول الحماس نفسه في إدانة تنظيم داعش، بالرغم من أنه يجوز للمحكمة أن تمارس الاختصاص الشخصي على رعايا الدول الأطراف الذين انضمّوا إلى صفوف هذا التنظيم، و منها: تونس، الأردن، فرنسا، المملكة المتحدة، ألمانيا، بلجيكا، هولندا، أستراليا.
في الملف الأوسيتي الجنوبي، فالقضية أكثر تعقيداً، فأوسيتيا الجنوبية هي جمهورية مستقلة معترف بها فقط من قبل روسيا الاتحادية وفنزويلا ونيكاراغوا وناورو وتوفالو وسوريا، وروسيا نفسها وقعت على النظام الأساسي للمحكمة لكنها سحبت توقيعها بعد ذلك، أما جورجيا فهي عضو فاعل في المحكمة. وبالرغم من ذلك، فإن موظفي المحكمة ينشطون على الأراضي الروسية والأوسيتية.
ولقد وثّق الناشط السياسي (غريغوري آبييف) بالصوت والصورة مخالفات قانونية عديدة، ترتكبها كوادر المحكمة في تلك المنطقة من العالم؛ أهمها: العمل السري بدون موافقة روسيا، عرض تعويضات مالية على المواطنين مقابل الإدلاء بشهاداتهم حول الحرب الأوسيتية – الجورجية، محاولة جمع المعلومات التي تدين روسيا بشكل أساسي دون التعرض لجورجيا، محاولة إقناع المواطنين للإدلاء بمقابلات مع وسائل الإعلام الغربية مقابل منح مالية مجزية، محاولة الحصول على معلومات ذات طبيعة سرية أي ممارسة التجسس، إجراء العديد من المقابلات مع المواطنين الروس على أراضي دول ثالثة كجمهوريات البلطيق وملدافيا. وبسبب هذه السلوكيات اللاأخلاقية، قام مجموعة من ناشطي أوسيتيا الجنوبية في الأشهر السابقة بكتابة عريضة، وقّع عليها مئات المواطنين تدعو منظمة الأمم المتحدة و منظمة الأمن والتعاون في أوروبا و المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية إلى استبعاد العامل السياسي في التحقيق في أحداث أغسطس/آب 2008.
بناءً على ما تقدم، نرى أنه من جديد تبرز سياسة المعايير المزدوجة في تعاطي الدول الأوروبية مع القضايا الجنائية الدولية، على الرغم من أن اختصاص المحكمة يجب أن يكون قانوني – فني بحت؛ فمن جهة يدعمون عملها في أوسيتيا الجنوبية، التي لا يمكن اعتبارها دولة مستقلة، ورفضوا ويرفضون عملها على الأراضي الفلسطينية. كما أنهم يدعمون عملها في سورية، ويبدون حماسةً أقل في دعم محاكمة مقاتلي داعش، الذين جاؤوا أساساً من تلك الدول الأوروبية نفسها.
في الواقع، لا تخفى على كل بصر وبصيرة الدوافع و الغايات الحقيقية للمحاولات الغربية، فهي تهدف إلى تحقيق بعض الأهداف السياسية و ابتزاز روسيا عبر البوابة الأوسيتية والسورية، خاصة بعد تنامي حضورها الدولي وتصاعد قوتها العسكرية والاقتصادية، و يوجد العديد من القرائن والحجج التي ترجح هذا الاستنتاج!
ختاماً، نحن بدورنا إذ ندين قتل المدنيين الأبرياء وندعو إلى القصاص العادل من القتلة في أي مكان من العالم، فإننا بنفس القدر ندين استغلال دماء الأبرياء لتحقيق أغراض سياسية، فالعدالة هي كلٌ مترابط ومتماسكٌ وأي محاولة للتجزئة أو الاختزال هو انحياز مقصود ويتنافى مع مفهوم العدالة نفسها.
خاص وكالة “رياليست” – د. آصف ملحم – خبير في مركز الأوضاع الاستراتيجية – موسكو.