موسكو – (رياليست عربي): لفترة طويلة من الزمن كان يُنظَر إلى القطب الشمالي والشرق الأقصى الروسيين على أنهما مناطق لمشاريع التنقيب عن الثروات الباطنية؛ ولكنهما تحولا، في ضوء الواقع الجيوسياسي الجديد، إلى مركزين كبيرين للتجاذبات الإقتصادية والإجتماعية الإقليمية و الدولية. نعتقد أن هذه التحولات الكبرى لا تخفى على المتابع والمراقب، خاصةً في ظل الصعود الإقتصادي للمارد الصيني ولدول جنوب شرق.
في الحقيقة، في العقود القادمة سنلاحظ تراجعاً أوروبياً في الإقتصاد العالمي و سنشاهد انزياحاً في مركز القوى الإقتصادية والسياسية نحو منطقة آسيا والمحيط الهادي؛ ففي هذه المنطقة سيبرز مجموعة من اللاعبين الدوليين، وهم: الصين، روسيا، الهند، اليابان، رابطة آسيان، الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهذه ليست نبوءة، بل إن الكثير من القرائن تدعم هذا الرأي:
-الصعود الإقتصادي الكبير للمارد الصيني ومشروعه العملاق (الحزام والطريق)، لذلك نلاحظ السعي الحثيث للولايات المتحدة لاختراق هذه المنطقة؛ فلقد شكلت في العام الماضي تحالف أوكوس AUKUS ضم المملكة المتحدة وأستراليا.
-عدم قدرة مجموعة ضيقة من الدول الغربية السيطرة إقتصادياً أو سياسياً أو ثقافياً على العالم، فمعظم دول العالم ترسم سياساتها بشكل مستقل.
-لم يسبق في تاريخ العلاقات الدولية أن يتم الحديث عن السيطرة الإقتصادية على دول محددة! لذلك دفعت هذه المقاربة الخطيرة و غير المسبوقة الدول إلى البحث عن خيارات أخرى مع أولئك الشركاء الذين يرغبون في تطوير إقتصاداتهم إنطلاقاً من مصالح شعوبهم.
علاوة على ما سبق، فإن الدعوة إلى تشكيل عالم متعدد الأقطاب تلقى رواجاً واسعاً؛ فمن المتوقع أن يحقق هذا النظام الدولي الجديد عدالة أكبر لدول العالم؛ فكل قطب سيشكل وحدة مستقلة عن الأخرى مع ضرورة تحقيق التعاون الوثيق بين هذه الأقطاب.
يبدو أن القيادة الروسية تنبأت بهذه التحولات الدولية الكبيرة منذ سنين؛ ففي عام 2014 أعلن الرئيس بوتين أن تطوير الشرق الأقصى يشكل أولوية وطنية، كما أن بوتين نفسه إستحدث في عام 2015 المنتدى الإقتصادي الشرقي Eastern Economic Forum EEF بهدف تحفيز الإستثمار في هذه المنطقة الحيوية المهمة، التي تشكل عقدة الربط بين المراكز الأساسية المرشحة للتربع على عرش الإقتصاد العالمي في العقود التالية؛ كما أن الشرق الأقصى يشكل البوابة الرئيسية لروسيا إلى هذه الساحة الجديدة للتنافس الدولي.
في هذا العام، انعقد المنتدى الإقتصادي الشرقي بين يومي 5-8 أيلول في مدينة فلاديفستوك الروسية، ضمن حرم جامعة الشرق الأقصى الفيدرالية، بمشاركة 68 دولة! ولم تقتصر المشاركة على الدول القريبة من منطقة الشرق الأقصى؛ فمن بين المشاركين دول بعيدة، مثل: النمسا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، ألمانيا، فرنسا، سويسرا، إيرلندا، إيطاليا؛ وهذا دليل على الأهمية الكبيرة لمنطقة الشرق الأقصى لمعظم دول العالم. علاوة على ذلك، فلقد بلغ عدد المشاركين في المنتدى لهذا العام أكثر من 7000 مشاركاً. وبالرغم من العقوبات الإقتصادية والضغوط الدولية تم توقيع مئات العقود الإستثمارية بقيمة إجمالية 3.27 تريليوناً من الروبلات الروسية (حوالي 50 ملياراً من الدولارات)، وهذه المشاريع الإستثمارية ستساهم في خلق عشرات الآلاف من فرص العمل. إضافة إلى ذلك، دارت في رحاب المنتدى أكثر من 100 حلقة حوارية حول مجمل النشاطات البشرية؛ ولقد لقيت مواضيع هذه الحلقات الحوارية جميعها ترحيباً ودعماً مباشراً من الرئيس بوتين نفسه.
في الحقيقة، تعتبر المشاكل اللوجستية ومشاكل البنية التحتية من أهم المشاكل التي تعاني منها منطقة الشرق الأقصى؛ فالتطوير الصناعي وإقامة المشاريع في مختلف مجالات النشاطات البشرية يتطلب دائماً بنية تحتية ولوجستية متينة، وهذا واضح للجميع. لذلك نلاحظ أن الكثير من الأموال خصصتها الحكومة الروسية للإستثمار في مجالات التوصيل الطرقي والسككي والتطوير العمراني أيضاً. ولقد حظي الطريق البحري الشمالي بحصة الأسد من هذه الإستثمارات؛ فلقد خصصت الحكومة الروسية حوالي 1.3 تريليوناً من الروبلات الروسية (20 ملياراً من الدولارات تقريباً)؛ فهذا الطريق هو أقصر الطرق البحرية التي تربط أوروبا بمنطقة الشرق الأقصى، كما أنه من هم الممرات المائية التي تربط قارات: آسيا و أوروبا و أمريكا. كما أن هذا الطريق سيساهم في تقليص نفقات النقل بنسبة تصل إلى 90%؛ لذلك نلاحظ إهتماماً متزايداً من قبل دول جنوب وجنوب شرق آسيا، وخاصةً الهند و الصين و كوريا الجنوبية و سنغافورة بهذا الممر البحري الإستراتيجي المهم.
من هنا نفهم أهمية الترابط بين منطقة القطب ومنطقة الشرق الأقصى؛ فلا يمكن بشكل من الأشكال الفصل بينهما في التعاطي الجيوسياسي والإقتصادي مع الموضوع، إذ يشكل طول شواطئ الشرق الأقصى الروسي حوالي 9000 كيلومتراً؛ منها 5400 كيلومتراً على المحيط المتجمد الشمالي و 3600 كيلومتراً على المحيط الهادي.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الحكومة الروسية تقوم بتوسيع مرفأ مدينة فلاديفستوك، التي شهدت نشاطات المنتدى الإقتصادي الشرقي 2022، لتكون نقطة انطلاق جميع الشحنات البحرية التي ستمر عبر الطريق البحري الشمالي، والعمل في هذا المشروع يسير بإطراد كبير الآن.
علاوة على الأهمية الجيوسياسية والتجارية والطاقية لمنطقة القطب الشمالي، فهذه المنطقة هي أقل المناطق دراسةً. كما أن هذه المنطقة تشكل مخبر التغيرات المناخية، فهذه التغيرات تؤثر على كوكب الأرض بالكامل؛ لذلك تسعى الكثير من الدول لتكثيف جهودها بهدف الحفاظ على الطبيعة وحماية التنوع الحيوي في القطب، ومواجهة التغيرات المناخية وذوبان الجبل الجليدي هناك. ولقد أبدت اليابان والصين إهتماماً كبيراً بإجراء الأبحاث العلمية في هذه المنطقة، وهما لا تستطيعان فعل ذلك إلا بالتعاون مع روسيا بالدرجة الأولى.
من نافلة القول، روسيا تتفوق إستراتيجياً على جميع الدول في منطقة القطب الشمالي؛ فهذه المنطقة هي جزء من التاريخ والثقافة الروسيين؛ فهي الدولة الأولى التي أرسلت بعثات إستكشافية إليه. كما أن روسيا تملك في منطقة القطب قواعد عسكرية وأساطيل وغواصات ومحطات رادارية وقواعد دفاع جوي؛ لذلك فهذه المنطقة هي جزء من الأمن القومي الروسي! لذلك نلاحظ في الفترة الأخيرة ازدياد المنافسة العسكرية بين روسيا والدول الغربية على هذه المنطقة؛ وما المناورات العسكرية الواسعة (الشرق 2022) التي قامت بها روسيا مع مجموعة من الدول الصديقة بين يومي 1-7 أيلول والتي ترافقت مع أعمال المنتدى الإقتصادي الشرقي 2022 إلا إشارة شديدة الوضوح على الأهمية الجيوسياسية الكبيرة لهذه المنطقة بالنسبة لروسيا.
قد يقول قائل: إن روسيا تتحرك باتجاه هذه المنطقة تحت ضغط الضرورة وليس هذا خيارها الحر الذي يفرضه التطور المتسارع في هذه المنطقة!
في الحقيقة، بالرغم من وجاهة هذا السؤال إلا أننا نعتقد أن الإجابة عليه مُتَضَمَنَة فيه، فجميع الدول تسعى للبحث عن مخارج لمشاكلها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، فالمشاكل والضغوط هي جزء من طبيعة الحياة وطبيعة العلاقات الدولية، التي هي مجرد إطار فوضوي يتغير زماناً ومكاناً؛ فهذه المشاكل تمثل المحرك الأساسي للتطور والتقدم.
ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن ما ذكرناه في الأعلى ماهو سوى غيض من فيض؛ فحول هذه المنطقة يمكن كتابة عدة مجلدات، إلا أن الغاية من هذه المقالة السريعة هي الإضاءة على الموضوع لإبراز أهميته الكبيرة من جهة، و لتحديد الفضاء الجيوسياسي للتنافس الدولي المستقبلي من جهة ثانية.
خاص وكالة رياليست – الدكتور المهندس آصف ملحم – الخبير في مركز الأوضاع الاستراتيجية – موسكو.