شهدت الآونة الأخيرة، توجهاً تركياً ملحوظاً باتجاه منطقة القرن الأفريقي ذات الموقع الحيوي عند مدخل البحر الأحمر، والتي تعد أيضاً بمثابة الخاصرة الجنوبية للوطن العربي، حيث قام الرئيس أردوغان في السنوات الأخيرة بعدة زيارات لدول القرن الأفريقي خاصة بعد المجاعة التي عصفت بتلك الدول، وقامت تركيا في السنوات الأخيرة بتوقيع العديد من الإتفاقيات التجارية والعسكرية والأمنية مع تلك الدول.
ولعل آخر المستجدات على الساحة كان اللقاء الذي يحمل في طياته العديد من التساؤلات خاصة في هذا التوقيت بسبب العلاقات المتوترة بين إثيوبيا ومصر بشأن سد النهضة والذي جمع بين وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو والممثل الخاص لرئيس الوزراء الإثيوبي والذي تم الإتفاق فيه حسبما صرح أوغلو علي زيادة التعاون في كل المجالات خاصة التجارة والإستثمار.
الجدير بالذكر أن نقطة الإنطلاق التركية الحقيقية نحو القارة السمراء كانت في عام 1998 عندما أصدرت تركيا وثيقة أطلقت عليها اسم “السياسة الإفريقية” والتي كانت قائمة على تدعيم الروابط الدبلوماسية والاقتصادية مع أفريقيا.
وتطورت السياسة التركية باتجاه إفريقيا وخصوصا منطقة القرن الأفريقي مع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002، والذي أطلق بدوره ما يعرف بسياسة الإنفتاح على أفريقيا عام 2005 لتعزيز التواجد التركي بها اقتصادياً ودبلوماسياً.
ومع تبدد آمال الرئيس أردوغان بالانضمام للاتحاد الأوروبي في الفترة الأخيرة، سعى جاهداً لإيجاد عمق استراتيجي بديل لتركيا الجديدة ووقع الاختيار على أحد المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية الكبيرة وهي منطقة القرن الأفريقي حيث أنها تطل على أحد أهم المضائق في العالم، وهي مدخل البحر الأحمر بالإضافة لقناة السويس وينقل من خلالها مواد الطاقة من النفط والغاز، كما أن مياهها غنية بالمشتقات النفطية المختلفة.
وتضم منطقة القرن الأفريقي الصومال وجيبوتي وإريتريا ويجاورها دول يضمها بعض الجغرافيين للقرن الإفريقي وهم إثيوبيا وكينيا وتنزانيا.
وقد قام التوغل التركي في تلك المنطقة استناداً لعدد من الدوافع والتي بدورها تركيا استخدمت لتحقيقها عدداً من الآليات.
أولا: دوافع التواجد التركي في القرن الأفريقي
1-حلم تركيا الكبرى
مع اختلال موازين القوي على الساحة الدولية وفي ظل تراجع التأثير الأمريكي، وتزايد الدور الفعال للمحور الروسي الصيني، وإنشغال الأوروبيين بالأزمات الداخلية وعلى رأسها البريكست وأزمة اللاجئين وفيروس كورونا في الفترة الاخيرة.
وجد الأتراك أنفسهم أمام فرصة سانحة للعب دور مركزي في النظام العالمي الذي بدأ يتحرر شيئا فشيئاً من القبضة الأحادية الأمريكية، وبدأ يتبادر إلى أذهان الأتراك فكرة إعادة دولة عثمانية جديدة، ولقد ظهر ذلك جلياً في التدخل التركي في سوريا وتواجدها في شمال العراق وأخيراً تدخلها في الشأن الليبي.
وذهب التوغل التركي إلى أبعد من ذلك حيث بدأت تكثف من تواجدها في منطقة القرن الأفريقي بما تشكله تلك المنطقة بموقعها الاستراتيجي المميز، مستغلة التراث العثماني في تلك المنطقة حيث استمر الحكم العثماني بها لمدة 350 عام في الصومال وجيبوتي وإريتريا وكينيا وأجزاء من إثيوبيا.
2-التنقيب عن الطاقة:
تعد منطقة القرن الأفريقي منطقة غنية بمواد الطاقة من النفط والغاز الطبيعي وخاصة في المياه الإقليمية لتلك الدول وعلى رأسهم الصومال.
ففي يناير/كانون الثاني من هذا العام خرج أردوغان بتصريح مفاده أن حكومة الصومال قد قدمت طلباً لتركيا للتنقيب عن الغاز والنفط قبالة السواحل الصومالية.
وقد كشف موقع “نورديك مونيتور” السويدي أن أنقرة تسعى لتمرير اتفاقية تسمح لكل الشركات الخاصة والمملوكة للدولة بالتنقيب عن الغاز والنفط في المياه الاقليمية الصومالية.
وفي هذا الشأن من المحتمل أن يعود على تركيا بفوائد كبيرة وهذا ما أكد عليه أردوغان في تصريح نقلته أحد وسائل الإعلام التركية “بأن التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية التابعة للصومال سوف يدر عائداً كبيراً على الإقتصاد التركي”.
3-تضييق الخناق على مصر
شكل غياب التواجد المصري المؤثر في القارة الأفريقية بشكل عام، عاملاً مهماً في تواجد العديد من القوى الفاعلة الحالية في إفريقيا وبالتحديد في منطقة القرن الأفريقي وعلى رأس هذه القوى تركيا أكبر الخصوم الحاليين للدولة المصرية، وذلك لإبتعاد مصر عن حاضنتها الإفريقية خاصة بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر.
وبما أن تلك المنطقة هي مدخل البحر الأحمر ويوجد بها مضيق باب المندب التي تعبر من خلاله السفن المتجهة لأوروبا عبر قناة السويس بالإضافة لتواجد عدد من الموانئ الهامة الواقعة في تلك المنطقة وعلى رأسهم مينائي جيبوتي ومقديشو، فقد يكون التواجد التركي في تلك المنطقة بمثابة حصار لمصر في إقليمها وعمقها الإستراتيجي في أفريقيا.
ولعل التفاهمات التركية – الأثيوبية الأخيرة، والتي تعد إمتداداً لإتفاقية التعاون الدفاعي بين البلدين في 2013 خير دليل على ذلك، فلقد عكس توقيت اللقاء الأخير بين وزير الخارجية التركي والممثل الخاص برئيس الوزراء الأثيوبي، ما يمثل في باطنه ورقة الضغط التي تستخدمها تركيا ضد مصر، خاصة بعد إعلان الرئيس السيسي عزمه إرسال قوات مصرية إلى ليبيا ما قد يهدد مصالح تركيا وحليفتها حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج خاصة مع التوترات الحالية في العلاقات ما بين القاهرة وأديس أبابا بخصوص أزمة سد النهضة.
4-منافسة الخصوم في الخليج (السعودية والإمارات)
يعتبر التواجد السعودي الإماراتي في القرن الأفريقي أحد العوامل المهمة التي دفعت أنقرة للتوجه صوب تلك المنطقة بمساعدة الحليف القطري المنبوذ من قبل الدولتين الخليجيتين.
ولا شك أن الدور البارز للسعودية والإمارات في تلك المنطقة وخصوصاً إذا ما ذكرنا أن الإمارات تتولى إدارة أهم موانئ المنطقة وهو ميناء جيبوتي التي تديره شركة دبي، إضافة للاستثمارات الإماراتية الضخمة في كل من جيبوتي وإريتريا كل ذلك يشكل هاجساً لأنقرة حيث كانت تسعي للسيطرة على هذا الميناء من خلال ذراعها في المنطقة وهي مجموعة البيرق التي تدير ميناء مقديشو.
وإلى جانب ذلك، إبعاد تركيا من مخرجات عملية السلام بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018 والتي أشرفت عليها الرياض، قد تعتبره تركيا تهديداً لمصالحها خاصة في إثيوبيا التي تعد تركيا أكبر المستثمرين الأجانب بها.
هذه العوامل أدت إلى تكثيف تواجدها في الفترة الأخيرة بالمنطقة لمقارعة خصومها في الخليج.
ثانياً: آليات التواجد التركي في القرن الأفريقي
1-تعزيز العلاقات مع إثيوبيا وزيادة الإستثمارات التركية بها
تعتبر إثيوبيا من أوائل الدول في قارة أفريقيا التي حظيت بالاهتمام من الجانب التركي منذ سيتينيات القرن الماضي حيث كان ذلك مقتصراً على البعد الاقتصادي والتجاري، ولكن مع مرور الوقت سرعان ما بدأ يظهر في الأفق بعد جديد للعلاقة ما بين الطرفين، خاصة مع تصديق البرلمان التركي على اتفاقية التعاون الدفاعي التي تم توقيعها في مايو 2013.
ولكن يظل البعد الاقتصادي هو الحاكم للعلاقة ما بين البلدين وهو ما سعت أنقرة إلى تعزيزه في الآونة الأخيرة، حيث تسعى أنقرة لاستكمال هيمنتها على سوق الاستثمارات الأجنبية في إثيوبيا، والتي يقدر حجمها بما يعادل 3 مليار دولار، وتعتبر بذلك تركيا المستثمر الأجنبي الأول في إثيوبيا حيث تتجاوز بذلك الصين والهند.
ومما يعد دليلاً على تطور حجم العلاقة بين الطرفين، أن نذكر أن إثيوبيا يتواجد بها حالياً 350 شركة تركية، دخلت منها في عام 2014 فقط إلى إثيوبيا 120 شركة، وهو ما يثبت النسق المتسارع لحجم العلاقات بين البلدين لاسيما المتمثلة في الجانب الاستثماري التركي الضخم هناك.
2-المساعدات الإنسانية والتواجد العسكري بالصومال
شكلت المجاعة التي عصفت بمنطقة القرن الأفريقي بشكل عام وبالصومال تحديداً، فرصة انتهزتها تركيا سريعاً وبالتحديد في عام 2011، حيث بدأت بتقديم المساعدات الإنسانية للصومال عن طريق أحد أذرعها هناك وهي وكالة التنمية والتعاون الدولي التركية، أو ما تعرف بوكالة تيكا التركية، والتي استخدمتها أنقرة كغطاء لعمليات الإستخبارات التركية لجماعات معينة في البلاد.
وذلك ما أكده تقرير أعده موقع “نورديك مونيتور” التابع لشبكة الشمال للأبحاث والرصد في يناير/ كانون الثاني من العام الماضي: والذي يفيد بأن الحكومة الأمريكية حصلت على معلومات تؤكد علاقة المخابرات التركية بالحركات المتطرفة في الصومال، وحسبما أورد التقرير أن “وكالة تيكا” أرسلت مئات الآلاف من الدولارات إلى حركة الشباب الصومالية من خلال أحد عملائها الذي كان معتقلاً سابقاً في غوانتانامو.
ناهيك عن التواجد العسكري هناك حيث افتتحت تركيا قاعدتها العسكرية في الصومال عام 2017، بذريعة تدريب القوات الصومالية، وتعد هذه القاعدة هي الثانية لتركيا في الخارج بعد قاعدتها الأولي بقطر.
إضافة إلى إدارتها لميناء مقديشو ذو الأهمية الاستراتيجية والذي تشرف عليه مجموعة البيرق التركية التابعة لـ “بيرات البيرق” صهر الرئيس أردوغان.
3-المنطقة التجارية الحرة في جيبوتي
لم تتوقف أنقرة في محاولاتها الساعية نحو التواجد في القرن الأفريقي، بل امتدت لتشمل جيبوتي البلد الصغير الواقع عند مدخل البحر الأحمر، والذي تجد فيه تركيا منافسة من الجانب الإماراتي الذي يشرف على ميناء جيبوتي.
فوقعت تركيا إتفاقية في يناير عام 2016 لإنشاء منطقة تجارية حرة تبلغ مساحتها 12 مليون متر مربع، وتقدر قيمتها بمليار دولار.
ولا تزال تركيا تطمح بأن تجد لها موضع قدم على سواحل هذا البلد الصغير، خاصة بعد توقيع أنقرة لاتفاقية التعاون البحري مع الصومال.
4-تأسيس رابطة مسلمي إريتريا
ساهمت تركيا بشكل كبير في تدشين رابطة مسلمي إريتريا والمعروفة أيضاً برابطة العلماء الإريتريين والتي قدمت اليها أنقرة الدعم المادي والمعنوي، حيث دائما ما يسعي الرئيس اردوغان لاستغلال البعد الديني كاحد الإستراتيجيات الهامة في اجندته الخارجية.
والمعروف عن هذه الرابطة محاولاتها المستمرة لإعاقة عملية السلام بين أثيوبيا وأريتريا، وهو ما تدعمه أنقرة وقد يرجع ذلك، إلى عدم الأريحية التي انتابت الجانب التركي لغياب تركيا عن إطار المفاوضات بين البلدين، والدور السعودي البارز الذي قد يثير بعض المخاوف لدي تركيا من أن يؤدي ذلك لتقارب سعودي – إثيوبي مما قد يشكل مزاحمة سعودية للأتراك على سوق الاستثمارات في إثيوبيا.
خاص “رياليست” – إسلام عبد المجيد عيد.