القاهرة – (رياليست عربي): تفرض الدول والهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية لإكراه، أو ردع، أو معاقبة، أو فضح دول أو كيانات أو أشخاص تهدد مصالحها، أو تخرق قواعد السلوك الدولي.
ولجأت العديد من الدول في صدارتها الولايات المتحدة الأميركية ومجلس الأمن والاتحاد الأوربي إلى فَرض العقوبات الاقتصادية بغرض تحقيق عدد من الأهداف الأمنية والسياسية أيضاً بما في ذلك مكافحة الإرهاب، وتهريب المخدرات، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحل الصراعات.
وتعد العقوبات الاقتصادية أكثر أساليب الردع انتشاراً وتأثيراً في العلاقات الدولية المعاصرة، حيث تمثل علاجاً صامتا وقاتلاً في الوقت نفسه بوسائل أقل عنفاً، كما أثبتت التجربة أنها المُعادل الاقتصادي لما يسمى في الحروب بالقصف الشامل، وهي من الأساليب التي انتهجتها كل من المنظمات الدولية والدول أثناء الحرب الباردة وازداد استعمالها أكثر مع نهاية تلك الحرب.
تُعد العقوبات الاقتصادية إجراء يهدف إلى التأثير على إرادة دولة لِحثها على احترام قواعد القانون الدولي، ولا تستهدف العقوبات حفظ وحماية القانون فقط، لكن حفظ وحماية السلام الذي لا يتفق بالضرورة في كل الأحوال مع القانون، لذا فإن العقوبة الاقتصادية هي وسيلة ضغط إيجابية أو سلبية، تهدف إلى تغيير السلوك السياسي للدولة المعاقبة، وهذه العقوبة يمكن أن تتدرج من التهديد البسيط إلى مقاطعة كلية أو شاملة للعلاقات الاقتصادية بين المعاقِب والمستهدَف.
خُبّرَت دول عديدة بالآثار السلبية علي السكان المدنيين جَراء فرض العقوبات الاقتصادية على هذه الدول مثل روديسيا السابقة والعراق ويوغوسلافيا السابقة وهايتي، وبات جلياً أن فرض العقوبات الاقتصادية والشاملة منها على وجه الخصوص ليست البديل اللاعنفي للقوة المسلحة مثل الحرب، حيث تُفضي إلى الموت والمعاناة، على الرغم من أن جميع العقوبات تعفي الأنظمة الغذائية والأدوية خلافا للحرب، بيد أن جميع الضحايا هم على جانب واحد.
في سياق النزاع الروسي – الأوكراني كشف الرئيس الأمريكي بايدن عن حزمة العقوبات الأولى التي فرضتها الإدارة الأمريكية على روسيا، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات على النخبة الروسية وعائلاتهم، وزعم بايدن أن الولايات المتحدة فرضت بالفعل عقوبات قاسية على بنكين روسيين، كما حذر بايدن موسكو: “روسيا ستدفع ثمناً باهظاً إذا ما واصلت سلوكها”، مشيراً إلى أن العقوبات ستعزل روسيا عن المنظومة المالية الغربية.
وتشمل العقوبات الأمريكية حتى الآن، إلغاء العمل مع خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” القادم من روسيا، وعقوبات الحظر الكاملة على بنك “VEB ، وعقوبات على البنك العسكري الروسي، وعقوبات على ديون روسيا السيادية.
تتمتع روسيا، بعلاقات قوية مع أسواق الطاقة والأسواق المالية العالمية، كما تعد موطناً لشراكات واستثمارات أجنبية رئيسية لذا فإن أي تدابير اقتصادية سيكون لها تداعيات خارج البلاد.
وبالرغم من أن كبار المالكين والمديرين لكبريات الشركات الأوربية ذات العلاقة المهمة مع روسيا أكدوا علي أنهم لا يتبعوا متغيرات الجغرافيا السياسية، لكنهم سيتخذون الخطوات اللازمة إذا تغيرت القواعد وشكلت عائقاً في إشارة واضحة للعقوبات الاقتصادية ضد روسيا.
أحد أهم التحديات التي ستفضي إليها العقوبات الأخيرة التي فرضها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، فتح الباب أمام منافسين من الصين ودول أخرى لا تعاقب روسيا، وتفوق صانعو الآلات الصينيون على الشركات الألمانية كموردين لروسيا في عام 2016، وبشكل عام، تضاءل عدد الشركات الألمانية التي تمارس نشاطاً تجارياً في روسيا من 6000 في عام 2010 إلى 3500 في عام 2021.
ووفقاً للخبراء “فإن بعض الخسائر التي ستلحق بأوروبا في التجارة غير المتعلقة بالطاقة مع روسيا نتيجة للعقوبات والعقوبات المضادة سيكون لها على الأرجح تأثير ضئيل تقريباً على توقعات النمو في أوروبا علي المدي القصير”.
يخشى القادة الأوربيون أن تهدد العقوبات الاقتصادية ضد روسيا الأمن القومي الأوروبي، وتحديداً في أخطر وأهم المجالات حيوية لشعوب أقدم الاتحادات الإقليمية في العالم و الذي تأسست اللبنات الأولى له على التكتل الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي، لذلك ينظر القادة الأوربيون بنظرة التوجس والخيفة للأضرار التي يمكن أن تحيق بأمن الطاقة وشرايين الحياة لهذا القطاع الحيوي القادم من روسيا، ويذهب البعض أيضاً إلى صعوبة توقع التداعيات الكارثية التي يمكن أن تحيق بالنظام المالي العالمي إن حاول الغرب إقصاء روسيا من ذلك النظام .
يمكن الزعم أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية هذه المرة تختلف عن سابقتها في عام 2014، حيث تشمل مجالات أوسع وستكون تداعياتها أشد قسوة، وتهدف في المقام الأول إلى “الخنق الاقتصادي” لروسيا الاتحادية وتراهن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي علي عجز الدب الروسي عن مواجهة هذه العقوبات الشديدة.
يُسبر دوماً التاريخ أغوار البواعث والمسببات ويستشرف أيضاً مستقبل الأزمات والنزاعات الدولية، ولذلك من المهم بمكان النظر للوراء لحدثين جللين وهما: سقوط جدار برلين في عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، ففور الحدثين اللذين أعادا ترسيم الخارطة السياسية والأمنية للقارة الأوروبية، تَوسع حلف الناتو ليشمل العديد من الدول الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية، على الرغم من رفض موسكو.
ساهم هذا الامتداد نحو حدود روسيا في تصاعد التوترات بين الغرب والكرملين، وتأججت التوترات لتضحى نزاعاً حامي الوطيس حين تغيرت السلطة في أوكرانيا في عام 2014، وإعلان أوكرانيا الدولة المتاخمة لروسيا رغبتها في الانضمام لحلف الناتو، والعودة إلى الوضع الأمني الناتج عن نهاية الحرب الباردة.
تشهد الوثائق الأمريكية والسوفيتية والألمانية والبريطانية والفرنسية التي رفعت عنها السرية والتي نشرها أرشيف الأمن القومي بجامعة جورج واشنطن على التأكيد الذي قدمه وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيمس بيكر إلى رقم 1 خلال اجتماعهم في 9 فبراير 1990، بشأن توسيع الناتو حين أعلن بيكر أن الحلف لن يتقدم “شبر واحد باتجاه الشرق”، ومع ذلك لم يتم الوفاء بهذا الوعد، وتقدم الناتو 500 كيلومتر إلى الشرق؛ ولذلك يعتبر الروس على مدى ثلاثين عاماً أنهم تعرضوا للخيانة والاحتقار، و أكد ذلك الرئيس الروسي بوتين في الآونة الأخيرة من الأزمة الحالية .
تشير موسكو إلى أنه قبل حل حلف وارسو، كان الغرب قد وعد شفهياً ميخائيل غورباتشوف بعدم توسيع الناتو ليشمل البلدان التي كانت تسمى سابقاً “أوربا الشرقية”، ويُعد ذلك حجر الأساس الذي تتمحور حوله المطالب الروسية بضرورة أن تكون تعهدات الناتو هذه الكَرّة تعهدات كتابية تصاغ في ميثاق دولي .
جاء الانتشار الأخير للجنود الروس على الحدود الأوكرانية ليشجع الخصم على التفاوض و يدق جرس الإنذار للناتو من أجل الوفاء بعهوده التي سبق أن قطعتها علي نفسها الإدارة الأمريكية .
لذلك تطالب موسكو الناتو بوقف جميع الأنشطة العسكرية في أوروبا الشرقية، بما في ذلك أوكرانيا والقوقاز وآسيا الوسطى، وعدم نشر صواريخ متوسطة أو قصيرة المدى بالقرب من الأراضي الروسية، وعدم إجراء أي تدريبات عسكرية تشمل أكثر من لواء عسكري واحد في حدود متفق عليها.
تعتبر روسيا أن الدول التي انضمت إلى الناتو بعد نهاية الحرب الباردة قد عززت أمنها على حساب نفسها، وسبق أن أخبر بوتين نظيره الأمريكي بايدن: “لقد قمت بتركيب منصات إطلاق صواريخ توماهوك حتى حدودنا، لن نتسامح مع هذا الموقف بعد الآن، لأن زمن طيران هذه الصواريخ إلى روسيا أو من أوكرانيا أو دول البلطيق يقدر بـ7-10 دقائق، أو حتى 5 دقائق للأنظمة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت “.
منذ أن تصاعدت التوترات بين روسيا والغرب بعد أن ضمت روسيا جزيرة القرم، ثم نشر الناتو تعزيزات عسكرية إلى دول في شرق أوروبا يأتي في الصدارة منها أوكرانيا، حددت موسكو مؤخراً هذا العام 2022 ، مطالبها الأمنية في وثيقتين دوليتين: معاهدة مقترحة مع الولايات المتحدة، واتفاقية مع الناتو .
واقع الأمر فإن روسيا أرادت ضمانات محددة تُضمّن في اتفاقية دولية بأن الناتو سوف يوقف توسعه باتجاه الشرق تجاه روسيا لما يمثله ذلك من تهديد حال ومباشر للأمن القومي الروسي، فضلاً عن استبعاد عضوية أوكرانيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق الأخرى في حلف الناتو، والامتناع عن “أي نشاط عسكري”عبر أوروبا الشرقية وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، ووقف أي مناورات للناتو بالقرب من روسيا .
جَليٌ أن الرئيس الروسي بوتين أعاد ترسيم الحدود الأمنية و أقر مراراً وتكراراً بأن دول شرق ووسط أوروبا تشكل حزاماً أمنياً يطوق بلده العظمى روسيا الإتحادية، وهنا يلزم الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها لا تعد دول أمريكا الوسطى والجنوبية بمثابة الحديقة أو الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها تمد نفوذها وتبسط يدها الطولى حتى الشرق الأقصى والأوسط وتجعل دول هاتين المنطقتين تقع ضمن دائرتها أيضاً الرئيس الروسي يخشى أن تكون أوكرانيا في المستقبل رأس الحربة الأمريكية والأوروبية تجاه أوروبا، ولا يقتصر الأمر في هذا السياق على الحروب التقليدية ولكن بالأحرى ذلك النوع من الحروب الحديثة وهي “الحرب الهجينة” التي من الممكن أن تحقق ذات الغايات التي تحققها الحروب النمطية وبأقل التكاليف .
نافل القول إن المطالب الروسية لا يمكن عزلها عن الحقيقة المجردة التي لا يخطئها أحد من الآحاد وهي أن وحدة الناتو المفترضة صارت مفقودة في السنوات الأخيرة، ما أدى بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عام 2019 بـأن ينعت الحلف بـ “الدماغ الميتة”، حيث يفتقر التحالف الأطلسي إلى استراتيجية سياسية واضحة في عالم ما بعد الحرب الباردة متعدد الأقطاب، فضلاً عن أن الأعضاء الأوروبيين في الناتو غالباً ما يكون لديهم مصالح وولاءات متضاربة .
وختاماً، لا تلوح في الأفق نهاية للتقاطع المعقد للتنافس على أرباح الدفاع ومصالح الأمن القومي ومحاولات التكامل فوق الوطنية بين العدوين اللدودين الدب الروسي من ناحية واليانكي الأمريكي من ناحية أخرى، ولكن تظل ثمة كوة باقية لحلحلة الأحجار العثرة بين المتنازعين تتمثل في المفاوضات المباشرة لتسوية النزاع المهدد للسلم والأمن الدوليين .
خاص وكالة رياليست – البروفيسور أيمن سلامة – أستاذ القانون الدولي العام.