القاهرة – (رياليست عربي): يُحكَم السودان منذ الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكم عمر البشير عام 2019 وفق صيغة فريدة لتقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين (من الذي قسم الشعب السوداني الي مدني معسكري؟!)، ضمن مرحلة انتقالية مضطربة.
وفيما يأمل السودانيون أن تنتهي المرحلة الحالية بانتقال ديمقراطي سلس نحو حكم مدني كامل، يخبرنا تاريخ السودان الحديث أن المدنيين لم يتمكنوا من حُكم البلاد سوى لفترة قليلة منذ الاستقلال. ومع ذلك، كان للسودان تجربة فريدة مع المشير سوار الذهب الذي سلّم السلطة طوعاً للمدنيين بعد انتفاضة عام 1985، في نموذج قلّما شاهدناه في عالمنا الحديث المعاصر، (والجدير بالذكر نيلسون مانديلا بجنوب إفريقيا).
تُعد التجربة السياسية في السودان منذ الاستقلال عن المحتل البريطاني والانفصال عن مصر في الأول من يناير/ كانون الثاني 1956 من التجارب اللافتة والمثيرة للغاية.
لمحة تاريخية
لم يتمكن مدنيو السودان من حكمه سوى لأشهر معدودة بعد الاستقلال، حتى إذا جاء العام 1958 فإذا برئيس الوزراء السوداني عبد الله خليل يُسلم السلطة لقائد الجيش الفريق إبراهيم عبود بسبب الخلافات الشرسة بين الأحزاب السودانية، وصراعها المحتدم على المناصب، خصوصاً حزبي الأمة والاتحاد الاشتراكي، الأمر الذي أثّر سلباً على الخدمات والأوضاع الاقتصادية.
وإذا كان الجنرال عبّود قد أخذ السلطة من المدنيين، وحسم ذلك الصراع، وجعل الجيش هو المدبر لأمر البلاد عسكرياً وسياسياً؛ ونظراً للمشكلات التي واجهته، و في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1964، خرج عبود ليعلن على إثرها حل المجلس العسكري، وتسليم السلطة للمدنيين.
وبالفعل استطاع الشيوعيون في بادئ الأمر السيطرة على الحكومة قبل أن يأتي أنصار الحركة المهدية من معقلهم في أبا جنوباً إلى الخرطوم، وتحت الضغط تم إجراء الانتخابات البرلمانية التي استطاعت الأحزاب ذات التوجه الإسلامي (كالعادة في فترات التحول السياسي) الحصول على النسبة الأعلى في المقاعد، الأمر الذي أهّل حزب الأمة والحزب الاتحادي للدخول في ائتلاف مشترك، ثم سرعان ما ارتقى صادق المهدي الشاب الثلاثيني حينها إلى رئاسة الوزراء ولم تدم ولايته إلا عشرة أشهر ما بين عامي 1966 و1967، لتجري انتخابات جديدة إثر تفكك الائتلاف الحاكم الذي دخل في أزمة وصراع جديد.
استمرت الأوضاع السياسية القلقة على هذا النحو الذي أدّى إلى نتائج سلبية على الاقتصاد السوداني، لكن حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي كانا قد اتفقا أخيراً على سياسات ومبادئ الدستور المؤجل منذ نحو طويل، وبدا أن الدستور الجديد سيكون متوجهاً ناحية الإسلام والشريعة في وقت كان العالم العربي متأثراً فيه بأيديولوجيا الناصرية والاشتراكية والقومية العربية.

حقبة الرئيس جعفر النميري
بعد هذا الاتفاق بين الحزبين الكبيرين في السودان بثمانية عشر يوماً فقط، وفي 25 من مايو/ أيار 1969، قام العقيد جعفر النميري على رأس تنظيم سُمي “الضباط الأحرار”، المتأثر بأفكار وتوجهات حركة الضباط الأحرار في مصر، باحتلال مداخل العاصمة الخرطوم، مانعاً الحكومة من تسيير أعمالها؛ ليتسلم مقاليد الحكم إثر الانقلاب الثاني في تاريخ السودان الحديث.
كان الشيوعيون عندما سيطروا على قيادة “جبهة المهنيين” التي كانت في الواجهة حين أطاحت بنظام عبود سنة 1964 قد اكتشفوا وجود حلفاء طبيعيين لهم وسط الضباط الشبان الناقمين على الأحزاب المدنية وعلى رأسها حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، الأمر الذي سعى من أجله الشيوعيون إلى إرساء وتعزيز وجود لهم داخل الجيش السوداني، وقد لاقوا بغيتهم في مجموعة من الضباط الاشتراكيين والشيوعيين الذين رأوا أن السودان يحتاج إلى إعادة بناء نظمه الاجتماعية والاقتصادية ليصبح علمانياً اشتراكياً، وكان من هؤلاء العقيد جعفر النميري الذي ارتقى إلى منصب رئاسة الوزراء وتعيين حكومة موالية له من العسكريين والمدنيين.
الصراع المسلح وتعزيز السلطة
سرعان ما واجه النميري حركة الأنصار بالقوة المسلحة التي أودت بالآلاف منهم حتى قُتل الإمام الهادي زعيم الحركة نفسه على الحدود مع إثيوبيا، ونُفي صادق المهدي إلى خارج السودان في النصف الأول من العام 1970، وأصبحت البلاد بعد القضاء على أهم قوتين سياسيتين في البلاد الأنصار ثم منافسيه من الشيوعيين واقعة بكليتها في قبضة جعفر نميري، وتعززت سلطته لاحقاً بعدما أحبط محاولة الحزب الشيوعي بالانقلاب عسكرياً عليه بقيادة الضابط هاشم العطا الذي استطاع النميري القبض عليه وإعدامه في نهاية المطاف، لتمثل الحالة الدموية الأولى في تاريخ الانقلابات العسكرية في السودان.
التخبط السياسي من أجل البقاء في الحكم
اتّسمت فترة النميري بتقلّبه ما بين الأفكار الاشتراكية في نصفها الأول والتقرب من الإسلاميين والصوفية في نصفها الثاني، مع قبضة حديدية على الحياة الحزبية؛ ففي هذه الفترة كان نميري قد زج بمعظم قياديي الحركات الاجتماعية في السجون والإقامة الجبرية، ومع ذلك حاول الإخوان المسلمون القيام بانتفاضة شعبية في العام 1973، والتي كان لها نتائجها فيما بعد حيث أسفرت عن دخولهم إلى مجلس الشعب في العام 1976، وبزغ منهم حسن الترابي الذي استطاع تولي وزارة العدل (كعادة تنظيم الاخوان – محل إقامتهم الدائم السجون).
وفي السنوات الأخيرة من السبعينيات وحتى انتفاضة الشعب السودان ضد النميري عام 1985، كان النميري ذكياً حين لاح له الصعود الكبير للتيار الإسلامي في السودان في تلك السنوات، ورغم اتهام البعض له باللوثة التي أصابته في السنوات الأخيرة من حكمه إلا أن الرجل حاول استغلال التيار الإسلامي من الإخوان والصوفية والأنصار، في خضم حالة “الصحوة الإسلامية” التي كانت تضرب بجذورها في العالم العربي كله آنذاك، للاستمرار في منصبه مؤيّداً بقوة شعبية هائلة من الإسلاميين في السودان، بادئاً بالمصالحة الشهيرة مع الصادق المهدي في عام 1977، وما جاء العام 1983 إلا وأعلن تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، وخرج الإخوان المسلمون (كالعادة) ومؤيدو هذا القرار في مسيرات مليونية هائلة كان لها وقعها الكبير في العالمين العربي والعالمي، ولذلك واجه النميري انتقادات عنيفة من الجنوبيين ذوي الأغلبية المسيحية، ومن واشنطن التي زار نائب رئيسها آنذاك جورج بوش السودان للتباحث مع النميري حول هذه المستجدات الساخنة.
نهاية حقبة النميري
ومن هنا، لم يلبث النميري إلا أن أعلن تراجعه عن تطبيق الشريعة، وفض تحالفه مع الإسلاميين، بل وإيداع قادتهم في السجون وعلى رأسهم حسن الترابي الذي كان مساعداً لرئيس الجمهورية للسياسة الخارجية آنذاك، بل واتهمهم بأنهم “يشوهون صورة الإسلام في السودان”، وتاجروا بأقوات الناس، وشجعوا الصراعات الفئوية، وكانت جل الأحزاب آنذاك محظورة إلا الحزب الرسمي في الدولة “الاتحاد الاشتراكي”.
كانت السودان حينذاك تغوص في أزمة اقتصادية طاحنة، تضرب بعض أطنابها المجاعات، وبدأ الناس يضيقون ذرعاً بإجراءات النميري، وزيادة أسعار الخبز، كما بدأت الإضرابات والمظاهرات تعم العاصمة منذ نهايات شهر مارس/ آذار 1985، وفي صبيحة السادس من أبريل/ نيسان وبينما كان النميري في طريقه من واشنطن إلى القاهرة ومنها إلى الخرطوم أعلنت القيادة العامة للجيش السودان على لسان وزير الدفاع أن الجيش انحاز إلى مطالب الشعب، وأعلن تعطيل العمل بالدستور، والإطاحة بالنميري ونوابه ومعاونيه ومستشاريه، ونقل السلطة للشعب عبر فترة انتقالية محددة، ليبقى النميري لعدة سنوات في القاهرة قبل أن يُسمح له بالعودة أخيراً في زمن الرئيس عمر البشير.

سوار الذهب.. أيقونة السودان
في مدينة أم درمان، المدينة الأكبر والمحاذية للجهة المقابلة للعاصمة الخرطوم، وفي شهور عام 1935 وُلد عبد الرحمن سوار الذهب، الذي تلقى تعليمه وحفظه للقرآن على يد والده، وفي العام 1955 تخرج في الكلية الحربية في السودان، وتلك السنة التي كانت المشاورات على أشدها بين السودانيين من جهة والمصريين ثم الإنكليز من جهة أخرى، وما جاء العام التالي إلا والسودان قد نال استقلاله التام، ودخلت أحزابه في صراعات السياسة والنفوذ حتى حكم الجيش الأول، وهو الانقلاب الأبيض أو السلمي بزعامة الفريق إبراهيم عبود.
تدرج عبد الرحمن سوار الذهب في المناصب العسكرية، ورأى سيطرة الجيش على مقاليد السياسة في السودان مع حكم عبود وجعفر نُميري، وحين حاول الضابط الشيوعي الرائد هاشم العطا الانقلاب على النميري في عام 1971، كان سوار الذهب مسؤولاً عن الحامية العسكرية في مدينة الأبيض، ورفض أن يُسلّم المدينة للانقلاب الشيوعي، ورغم ذلك أصدر نميري قراره بإبعاده عن السودان، فاتجه صوب قطر حيث عمل فيها مستشاراً عسكرياً للشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وكان لسوار الذهب الفضل في إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية القطرية حين فصل الجيش عن الشرطة.
عاد سوار الذهب إلى السودان مرة أخرى في عام 1975 وقد تحسّنت علاقته بالنميري الذي كنَّ له ولاءً كبيراً باعتباره رأس الدولة السودانية، ثم ما لبث أن ترقى حتى وصل إلى منصب رئيس هيئة الأركان، ثم رُقي إلى منصب وزير الدفاع السوداني والقائد العام للقوات المسلحة في مارس/ آذار 1985 قبل أيام قليلة من انتفاضة السودان ضد حكم النميري.
كان سوار الذهب وهو في منصب القائد العام للجيش السوداني يرى تطلعات السودانيين، كما يرى غضبهم الذي بلغ أوجَهُ حينذاك بسبب تقلبات النميري السياسية والحادة ما بين الاشتراكية والتيار الإسلامي ولعبه على الحبال، وفوق ذلك الوضع المتأزم بسبب سياسته الخاطئة والحادة في المشكلة الجنوبية التي كانت تتوسع منذ الاستقلال، والتي زادت مع إعلانه “تطبيق الشريعة الإسلامية” حتى على الجنوب ذي الأغلبية المسيحية، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية البائسة التي اضطرت النميري حينها في مارس/ آذار من العام نفسه إلى السفر إلى الولايات المتحدة لمقابلة كبار المسؤولين في واشنطن والبنك الدولي بهدف الحصول على قروض عاجلة.
يقول سوار الذهب في أحد لقاءاته: “حاولنا تلمس شعبية الرئيس (النميري) في تلك الأوقات، فدعونا لتظاهرة واسعة جداً أردناها مليونية للتأكيد أن قطاعاً كبيراً من الشعب السوداني لا يزال يتمسك بالرئيس جعفر النميري، لكن بكل أسف الذين جاءوا لهذه التظاهرة رغم الإعداد الواسع لها كانوا أقل القليل من الشعب السوداني، ففي تلك اللحظة أدركتُ أن شعبية الحكم الذي كان قائماً لم تعد موجودة، وبالتالي كانت هناك مسؤولية كبيرة على عاتق القوات المسلحة للحفاظ على النظام العام، وأن الدفاع عن هذا النظام ستكون عواقبه كبيرة وصدامية مع الشعب، فتشاورت مع إخواني في القيادة العامة، ومررت على الوحدات العسكرية فشعرت أن هناك رغبة عامة للاستجابة لمطالب الشعب السوداني الذي كان يريد أن يُغير هذا الحكم بحُكم ديمقراطي، فما كان مني إلا أن أعلنت أننا (الجيش) ننحازُ إلى جانب الجماهير ونُنهي الحكومة القائمة ونحكم البلاد لفترة انتقالية محدودة نجري خلالها تعديلات في الدستور ثم بعد ذلك نُجري انتخابات واسعة ونسلم بعد ذلك الحكم للحزب الفائز وحينها نتنازل عن الحكم له”.
حلَّ سوار الذهب الحكومة، كما حلَّ بعض الإدارات الحكومية سيئة السمعة في زمن النميري، ولكنه صدم بالواقع الاقتصادي المؤلم والبائس، وبسبب علاقة سوار الذهب القوية والمتينة بدول الخليج، وهو الذي عمل في قطر لمدة ثلاث سنوات مستشاراً عسكرياً لأميرها الذي أشار وأشاد للملك فهد آل سعود بشخصية سوار الذهب وانضباطه، وكان لإشادة أمير قطر أثرها السريع، فقد أمر الملك فهد بإرسال معونات عاجلة للسودان في صورة أموال دولارية قُدرت بـ 60 مليون دولار وبترول استطاع أن يسد حاجة البلاد لسنة كاملة كما يروي سوار الذهب في أحد لقاءاته.
سوار الذهب وتجميع الفرقاء السياسيين
تشكّل في تلك الفترة الأولى من حكم سوار الذهب ما سُمي بـ “التجمع” السياسي من بعض الأحزاب والمهنيين، واستُبعد فيه الإسلاميون من الجبهة الإسلامية والإخوان المسلمين الذين أفرج عنهم سوار الذهب، ولم يُستدعوا إلى المشاركة في الحكومة المؤقتة التي تشكّلت في 22 أبريل/ نيسان بعد أسبوعين من الإطاحة بالنميري، برئاسة نقيب الأطباء جزولي دفع الله، الذي دفع ثمناً لمواقفه بالسجن في عهد نميري، وذلك بحجة أنهم كانوا من أنصار ومؤيدي النميري في سنوات حكمه الأخير.
خلال عام، حكم سوار الذهب، نشطت حركة الأحزاب من جديد، بل ظهرت أحزاب وتجمعات لا حصر لها بجانب الحزبين الكبيرين “الأمة” المعبّر عن الحركة المهدية بزعامة صادق المهدي الذي كانت تربطه علاقات قوية بالقذافي في ليبيا وبريطانيا، والحزب الاتحادي الديمقراطي المعبر عن الختمية، كما ما لبث ان ظهر الإخوان المسلمون مرة أخرى من جديد بقوة، بزعامة حسن الترابي الذي راح يجول في الداخل والخارج دعماً لمركز الإخوان داخلياً وإقليمياً بل ودولياً، وكذلك برز الحزب الشيوعي السوداني، فضلاً عن أحزاب وتجمعات أصغر مثل الحزب الناصري، والبعثيين، أما الجنوبيون فكانوا على حنقهم الشديد من نميري، ورأوا في المجلس العسكري الانتقالي برئاسة سوار الذهب “نميريين بدون نميري” كما قال زعيمهم جون قرنق.
المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات
قام سوار الذهب في هذه الفترة بإعلان أهداف المجلس العسكري الانتقالي الممثلة في الوحدة الوطنية بإجراء انتخابات ديمقراطية، ومعالجة أزمة الاقتصاد، وإنهاء الحرب في الجنوب، وأنه يأمل أن تعود الديمقراطية في البلاد خلال عام.
وهو ما تم على أرض الواقع، وبإشراف مباشر من الرئيس عبد الرحمن سوار الذهب أُجريت الانتخابات التي استمرت على مدار 12 يوماً، اشترك فيها 4.5 مليون ناخب أدلوا بأصواتهم بسلام في 28 ألف مركز اقتراع، نال حزب الأمة 38% من المقاعد البرلمانية، كما نال الاتحادي الديمقراطي ما يعادل 29%، بينما للمفارقة خسر زعيمها حسن الترابي في منطقته الانتخابية في الخرطوم بحري، أما بقية الأحزاب والتحالفات فقد فازت بنسب متفاوتة.
الوفاء بالعهد والوعد
أثبت المشير عبد الرحمن سوار الذهب، رئيس المجلس العسكري الانتقالي، ووزير الدفاع السوداني، صدق التزامه بكلمته، وقام بالفعل بحل المجلس العسكري الانتقالي والحكومة الانتقالية عند نهاية الفترة الانتقالية، وقد سأله أحد الصحفيين يوماً: هل التزمت بوعدك للسودان وأهله؟ فرد قائلاً: “أضفتُ فوق تلك المدة عشرين يوماً فقط حتى تكتمل الانتخابات الديمقراطية، وقد اكتملت، فسلّمتُ مقاليد السلطة للحكومة المنتخبة الجديدة لرئيس وزرائها الصادق المهدي ثم انسحبت”.
كان انسحاب سوار الذهب من رأس السلطة، كرئيس للسودان ووزير للدفاع، ذلك الرجل الذي ملك في يديه كل شيء في تلك الأشهر العصيبة بُعد ثورة 1985، حيث الأموال والنفوذ والعلاقات الممتازة بدول الخليج وليبيا ومصر، أمراً محيّراً للغاية، ومستغرب في عالمنا المعاصر، فقد كان بمقدوره أن يستمر على رأس السلطة ويجد مؤيدين له من الداخل والخارج، أو أن يزيد في الفترة الانتقالية لتستمر أعواماً بحجة عدم استقرار الأوضاع وسيكون معه كل الحق في ذلك، لا سيما مع الأزمة التي استفحلت في جنوب السودان، لكن الرجل آثر الالتزام بكلمته، والانسحاب من المشهد السياسي في نادرة أخلاقية قلما رأيناها في القرن العشرين.
وقد سُئل في ذلك صراحة، فما كان منه إلا أن قال إن بعض أعضاء المجلس العسكري الانتقالي آنذاك كانوا كلما ذكّرهم سوار الذهب بضرورة الإسراع والانضباط في المواعيد لأنهم عما قريب سيُحالون للتقاعد بعد تسليم السلطة للحكومة المنتخبة، كانوا يقولون له: رجاء أن تنسى هذا فإننا سنضطر لتمديد الفترة الانتقالية ولا محالة. لكنه كان يرد في صرامة وحزم: هذا مستحيل، لقد أعلنّا عن فترة انتقالية مدتها سنة واحدة وسنلتزم بكلمتنا للشعب.
كانت صرامة سوار الذهب، وتصميمه على تسليم السلطة للمدنيين، نابعتين من تكوينه الشخصي والفكري، وقرين صلة بالتجربة السودانية التي كانت فكر الصحوة، وقد تجلى ذلك في مناصبه التي تقلدها بعد تركة لحكم السودان، وقد حقَّق إنجازات مهمة من خلال نشاطه الاجتماعي والخيري في السودان، التي شيَّدت الكثير من المدارس والمستشفيات والمستوصفات ومراكز الطفولة وملاجئ الأيتام والمساجد، كما أنشأت محطات للمياه وحفرت مئات الآبار في أفريقيا، بل حاول قدر الإمكان المساهمة بوساطته حين كانت تضرب الأزمات السودان مثل “أزمة دارفور” وألقى بمبادرة للوصول إلى حل في هذا الأمر.
ونتيجة لمشاركاته ونشاطه في مجال العمل الخيري والدعوي فقد مُنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام في العام 2004، وفي الثامن عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي 2018، توفي الرئيس والمشير عبد الرحمن سوار الذهب عن عمر ناهز الثالثة والثمانين من عمره، موصياً أن يكون مثواه الأخيرة في المدينة النبوية في مقبرة البقيع، وقد تحققت وصيته، تاركاً من خلفه نموذجاً فذاً ونادراً في المسألة السياسية والحكم في تاريخنا المعاصر.
التعليق
من الذي زرع تلك الفتنة والفرقة بين شعوب الوطن والأمة الواحدة، هذا عسكري وهذا مدني، وبين شيوعي وحدوي، ديمقراطي جمهوري، تقدمي اشتراكي، رأسمالي برجوازي، سني شيعي علوي، مسلم، ومسيحي، يمني حوثي، كردي، درزي، فهل تلك الدائرة الجهنمية من الفتنة التي يبدو صعوبة الخروج منها قريباً نحن من وضعنا أنفسنا فيها، أم من؟ لماذا لم نتعظ من تجارب الماضي والتاريخ؟
ألم يحن الوقت أن نخرج منها سريعاً، فغالبية الشعوب في عالمنا العربي لا تهتم بتلك المسميات، والمفاهيم التي تستغل لتضليل وتغيب المواطن الفقير، الذي يسعى إلى عيشة كريمة له ولأولاده وأحفاده، دون النظر إلى أي نظام بحكمة، ملكي، رئاسي، برلماني ، جمهوري، فيدرالي، كونفدرالي.
فالمواطن الضعيف المغلوب على أمره ضحية المتصارعين والمنتفعين من الحكم والسلطة.
خاص وكالة “رياليست” – د. خالد عمر.