بالرغم من نجاح ثورة ديسمبرالسودانية في خلع نظام الإنقاذ في الحادي عشر من أبريل العام الماضي وتشكيل بعض مستويات الحكم الإنتقالي على المستوى السيادي والتنفيذي بعد تفاوض معقد بين المكونات المشاركة في الثورة إلا أن التركة الثقيلة التي أورثها النظام المخلوع النخبة الحاكمة اليوم تعد أكبر عائق أمام عملية إقامة نظام ديمقراطي بصورة سلسة فضلاً عن دخول المكونات في صراع خفي بدأت تظهر إرهاصاته بين الحين والآخر.
إن الصراع في السودان اليوم بعد ان كان صراعاً بين المكون المدني والعسكري إلا أنه من الظاهر بات يحدث داخل المكونات حيث وقع خلافاً بين داخل المكون المدني المتمثل في قوى إعلان الحرية والتغيير حول شكل المرحلة الإنتقالية والرؤى الإقتصادية حتى ادت هذه الاختلافات الى إستقالة بعض قادتها كإستقالة السياسي المخضرم إبراهيم الشيخ من موقعه في مجلس القيادة لقوى إعلان الحرية والتغيير.
وبنفس القدر هناك خلاف غير معلن وتسابق حول الزعامة داخل المكون العسكري لقيادة القوى المسلحة في البلاد حيث يشكل طرفي هذا الصراع القائد العام للقوات المسلحة الفريق الاول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلوا. إذ يسعى الأخير الى إستقطاب بعض القادة العسكريين والأمنيين الى صفه من خلال تقديم بعض الإغراءت المالية فضلاً عن فتحه لأبواب التجنيد لفنيين متخصصين في المدرعات وذلك لتوسيع قوته العسكرية حتى يتمكن من حسم هذا الصراع لصالحه.
وبالإضافة الى ذلك يلاحظ بان دقلو قد كثف من مساعيه لغرض تمثيل مايعرف محليا بقوى الهامش من خلال إستغلاله فرصة تمثيله الحكومة في المفاوضات الجارية في جوبا مع الحركات المسلحة والتي أتاحت له إمكانية التواصل مع كل القوى المعارضة لنظام البشير في السابق والتي تمثل الأقاليم الطرفية وفي الوقت نفسه يحاول حميدتي إستغلال نفوذه من اجل تقوية موقعه في الداخل بالرغم من الصعاب التي يواجهها.
ولقد فسر محللون سياسيون أن العصيان الذي قامت به قوة هيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات العامة بإعتباره إمتعاضاً أظهرته النخبة الشمالية ونخبة الوسط من تغول قوات حميدتي على الدولة وأن إصرار الأخير على مواجهة هذا العصيان بالقوة وتصفيت العاصين داخل مقارهم هي محاولة منه لضرب أخر معاقل الدولة السودانية المسنودة من أبناء وسط وشمال السودان.
وفي حال تحققت رغبة حميدتي يومها في الخرطوم لنتج عنه تصارع بين أقاليم السودان على أساس إثني وقبلي أي بين اهل ووسط شمال السودان والحواضن التي تنحدر منها قوة الدعم السريع أي إقليم دارفور.
صراع الاطراف وتوريد نماذج الحكم
ومن المؤكد في حال رجوح كفة أي من الأطراف المصارعة على الأخرى سوى كانت مدنياً أو عسكرياً من المؤكد سيورد الى السودان أحد النماذج الحاكمة في البلدان المجاورة وعليه يمكن القول بأن السودان شيتعرض الى نماذج الحكم التالية:
مصرنة المشهد
كما ان الفريق محمد حمدان حميدتي يسعى بكل ما لديه من قوة من اجل الوصول الى السلطة ايضا يسعى الفريق البرهان بنفس القدر من الجهد حتى قام بمغامرة لقاء رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنجامين نتنياهو في العاصمة اليوغندية كمبالا في 6 شباط الجاري بغيت الحصول على الشرعية الدولية التي تتيح له فرصة تسلم مقاليد الحكم في البلاد.
وفي الوقت عينه يلتقي البرهان القيادات الاهلية والسياسية بصورة مستمرة حتى يحصل على دعم شعبي وسياسي يمكنة ايضاً من الإنفراد بالسلطة فضلاً عن لقاءات مكثفة مع قيادات الواحدت العسكرية من اجل حصوله على تفويض من قيادة الجيش طبقا لما فعل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل تسلمه السلطة في العام 2013.
وبالتالي يمكن القول أن جلوس الفريق البرهان على كرسي السلطة هو مصرنة المشهد السياسي السوداني بالمحصلة ولكن هذا الامر مرهون بإمكانية البرهان إزالت العوائق المتمثلة في حميدتي والقوى المدنية السياسية بجانب إسترضائه الشارع السوداني الثائر الرفض للنظام العسكري من الاصل.
خلجنة المشهد
يرى البعض بأن الفريق محمد حمدان حميدتي الحاكم الفعلي للسودان وذلك بحكم انه أصبح يدير شبكات إقتصادية قوية توازي إقتصاد الدولة السودانية وفي الوقت عينه نسج علاقات قوية من الدول الخليجية التي سخر لها كل إمكانياته وقوة الأمنية للدفاع عن مصالحها في كل من اليمن وليبيا.
وبالتالي أصبحت القوة التي يقودها الفريق حميدتي والمسماه بقوة الدعم السريع رقماً صعباً في معادلة السياسة السودانية وهي قوة مليشاوية قبلية تمتلك مقومات إقتصادية وسياسية وقوة عسكرية تسيطر على مواقع حساسة داخل العاصمة الخرطوم، حيث يصف البعض حالة تغلغل هذه القوة وتنفذ قائدها في الساحة السياسية هو إستنساخ لنموذج الحكم الخليجي الذي حدث في بدايات القرن العشرين حينما تأسست الممالك الخليجية بقوة قادتها القبليين.
توريد النموذج الإثيوبي
وهناك مساعي للقوة السياسية المدنية لمنع العسكريين من تسلم مقاليد الحكم في البلاد وفي إطارهذه المساعي تقدم رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك بطلب رسمي لمجلس الأمن الدولي بتفويضه لإنشاء بعثة سياسية خاصة من الأمم المتحدة تحت الفصل السادس لدعم عملية السلام المتعثرة حسب تصريحه وهذا ما رفضته قوى سياسية داخل قوى إعلان الحرية والتغيير.
وعلى ذكر قوى إعلان الحرية يمكن وصفها بانها عبارة عن تشكيلة سياسية تجمع جميع اطياف المعارضة السياسية بعد أن سادت قناعة بأن هذه المكونات المدنية السياسية بالنظر الى ثقلها الشعبي لن تستطيع أن تحكم البلاد بمفردها لذلك أنشأت هذه التشكيلة بغرض توحيد الجهود لإسقاط النظام السابق وإقامة نظام ديمقراطي تعددي مستلهمة ذلك من نموذج نظام الحكم الإثيوبي القائم على إئتلاف قومي يجمع كل المكونات القومية الإثيوبية.
وتأسيساً عليه يمكن القول ما أن تمكن المدنيون من إبعاد العسكريين عن السلطة قد يقوموا لأيضاً بتطيبق نموذج نظام حكم إثيوبيا وهذا في حد ذاته أزمة لانها ستكون توليفه سياسية لا يمكن تطبيقها على واقع سوداني بالغ التعقيد وذلك لأسباب تخص الحالة السودانية فضلاً عن عجز الأحزاب السياسية في تمثيل كل الإثنيات والأعراق السودانية في هياكل الحكم المستقبلية.
وأخيراً إن التغيير الذي تم في السودان عقب ثورة ديسمبر لم يحقق أي إختراق يذكر في سبيل إقامة نظام ديمقراطي ولم توضع بعد اللبنات الأساسية التي يقوم عليها هذا النظام، وبل الأمور أعقد من ذلك إذ ضعفت الثقة داخل المكونات السياسية المدنية والعسكرية حتى ظهرت تداعيات خطيرة في الاوضاع السياسية والإقتصادية ما رجح فرضية حدوث إنقلاب عسكري بمطالبة شعبية.
إبراهيم ناصر- باحث بمركز أنقرة لدراسة الأزمات والسياسيات (أنكاسام)، خاص لوكالة أنباء “رياليست”.