ما بين نبذ التدخلات الخارجية في السياسة اللبنانية، والتهويل من دعم السفارات لأي إنقلاب على سلطة الحكم، والتلويح بأرجحية أن تكون الثورة الشعبية اللبنانية كما سابقاتها في الدول العربية مفتعلة من قبل الولايات المتحدة كمكيدة للإيقاع بحزب الله ومحاصرة المقاومة؛ يكافح الشعب اللبناني اليوم للتحرّر من إرتهانات الخارج وكسر كل القيود التي أهانت كرامته وكبّلت حياته الإنسانية داخل الوطن.
وفيما لم تزل السلطات اللبنانية تقاوم حكم الشعب وإرادته بتغيير ممثليه دون تقديم حلول جذرية أو المضي بأي إجراءات فعّالة للإستجابة للمطالب المحقّة؛ شهدت الأيام المنصرمة دعوة صريحة من الأمين العام لحزب الله السّيد حسن نصر الله إلى الدولة اللبنانية لمدّ اليد نحو السياسة الخارجية الصينية كآلية عملية للخروج من الأزمة وإعادة الإستقرار للإقتصاد.
توازن القوى الدولي
في أفُقيته، يأتي طرح التعاون مع الصين في إطار إمكانية توجه لبنان نحو الصين لدعوتها للإستثمار على أراضيه، باعتبار أنّها الدولة الرائدة إقتصاديًا في العالم إلى جانب الولايات المتحدة؛ غير أنه يصطدم عاموديًا بالمصالح الأميركية في لبنان والشرق الأوسط.
بنتيجة هذا الواقع، أكّد المدير العام لإدارة غرب آسيا وشمال أفريقيا في دائرة العلاقات الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي “تشينغ جيان وي” في حديث لصحيفة “النهار” أنه ليس لدى الصين النية أن تكون بديلاً من أميركا في لبنان، وليست لديها القدرة على ذلك لكون الصين لاتزال دولة نامية، مبيّنًا بصريح العبارة رفض الصين لوضع التعاون بهذا الإطار، بأنه حتى ولو شهدت الصّين تطوراً أكبر، “لن تسعى إلى ملء الفراغ”. وإنّما أضاف في السياق ذاته “أميركا أكبر دولة متقدمة في العالم، ولا نريد خوض حرب تجارية معها، ولكن إذا أصرّ الجانب الأميركي سنخوضها حتى نهاية المطاف”.
وفيما يرى كُثر إحتمال نشوب الحرب بين الصين وأميركا، وبالأخص لناحية إمتلاكهما أعلى معدلات إنفاق عسكري، تدرك الصين أنه قد لا يمكنها الإنتصار في نزاع مسلح مباشر مع الولايات، لما سوف يكلّفها ذلك من تدهور في أمنها الإقليمي وإقتصادها العالمي. وبالتالي تسعى الصين لتطوير قدراتها، مناورةً الولايات المتحدة لدفعها إلى التردد أمام أي تدخّل عسكري في آسيا. أمّا لو خرج النزاع عن إطاره الإقتصادي، فإنّ التخوف يكمن في تحوّله إلى عرض للقوة وحروب بالواسطة في الشرق الأوسط ولبنان كساحة لنزالهما الخفي.
وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية
من جهتها، لطالما هدفت الصين إلى تعميق علاقات التعاون الاستراتيجي الصينية – العربية، القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة. كما وكانت دائمًا “تدعم بحزم الحركات التحررية الوطنية العربية”، بما يفيد دعمها لسيادة الدول العربية بمواجهة الإحتلال الإسرائيلي، وهو ما حرصت على التأكيد عليه في مقدمة وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية الصادرة عن وزارة خارجية جمهورية الصين الشعبية بتاريخ 13 يناير 2016.
وفي سياستها تجاه الشرق الأوسط، تلتزم الصين بتطوير علاقاتها مع الدول العربية، ومنها لبنان، على أساس المبادئ الخمسة المتمثلة في الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، وعدم الإعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. كما وتحرص على تعزيز التشاور والتنسيق للعمل سويا على صيانة المقاصد والمبادئ لـ”ميثاق الأمم المتحدة”، مع تطبيق أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030، بما يحافظ على العدل والعدالة في المجتمع الدولي. ويمتد التعاون الصيني العربي على نحو ليشمل 1) المجال السياسي؛ 2) مجال الاستثمار والتجارة؛ 3) مجال التنمية الاجتماعية بمختلف مستوياتها البشرية، العلمية، الزراعية، الصحية والبيئية؛ 4) مجال التواصل الإنساني والثقافي؛ و5) مجال السلام والأمن.
بل وتجدر الإشارة، أنّ الصين شجّعت في المجال السياسي على مواصلة تعزيز التبادل مع الأحزاب والمنظمات السياسية الصديقة في الدول العربية مع الحزب الشيوعي الصيني، بغية توطيد الأسس السياسية لتطوير العلاقات الصينية العربية، وذلك على أساس مبادئ الاستقلالية والمساواة الكاملة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وأمام دعوة المقاومة للدولة للتعاون مع الصين، يطرح هذا البند بدوره تساؤلات عدّة حول العمق الذي قد يترجمه التعاون على المستوى الحزبي مع حزب الله، رغم الإختلاف الأيديولوجي بين الحزبين.
غير أنّه في العموم، نجد التلاقي بين الحزبين محققًا لجهة موقف الصين من القضية الفلسطينية، إذ أكّدت الوثيقة أنّ الصّين تقف إلى جانب عملية السلام في الشرق الأوسط وتدعم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، بالإضافة إلى دعم الجهود المبذولة من جامعة الدول العربية ودولها الأعضاء في هذا السبيل؛ والتمسك بحل القضايا المتأزمة في المنطقة بالطرق السياسية.
على ضوء هذه القراءة لوثيقة التعاون الصيني-العربي، نعرض إلى الإشكاليات المختلفة التي تطرحها إحتمالية اللجوء إلى الدعم الصيني للخروج من الأزمة في لبنان، إنطلاقًا من دراسة مدى توافق هذا الطرح مع أهداف الصين الإستراتيجية والتبيّن من مطامحها الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط؛ مرورًا بواقع العلاقات الصينية مع دول النفوذ في المنطقة؛ ووصولًا إلى التحقق من الخطورة الأمنية التي قد يفرضها هذا الطرح على الساحة اللبنانية في ظل العلاقة الجدلية التي تضع سياسة الصين الخارجية بمواجهة الولايات المتحدة الأميركية.
أهداف الصين الإستراتيجية ومطامحها الجيوسياسية في الشرق الأوسط
يرى الخبراء الجيوسياسيين أنّ مختلف النزاعات في الشرق الأوسط إنّما ترجع إلى التنافس على النفط والغاز الطبيعي، وهو ما دفع للقول بأنَّ حروب الشرق الأوسط في حقيقتها “حروب طاقة”، تتحرك في محورها الدول العظمى ضمن معادلة دولية كبرى وفي الحدود التي تفرضها إمكانات القوى الإقليمية في ظل الصراع الدائر في الشرق الأوسط. من هنا، لنا أن نلحظ تقارب نظرة الصين للشرق الأوسط لنظرة الولايات المتحدة، باعتباره مصدرًا رئيسيًا لضمان أمن طاقتهما للعقود القادمة. غير أنّ ما يميز الصين إيجابًا عن الولايات المتحدة، هو ظهورها بدور الحريص على حفظ الأمن والسلم الدوليين والفاعل في تعزيز التعاون الدولي، وإلتزامها بالموقف المسالم من خلال تجنب خلق العداء مع أي من دول المنطقة والإكتفاء بدعم حلفائها؛ بالإضافة إلى ما يوازي ذلك من إبتعاد الصين الحازم عن الانخراط الإقتصادي في منطقة الخليج بعد تفاقم الأزمات في الشرق الأوسط.
وإذ تظهر السياسة الخارجية للصين تعاونية في الطبيعة؛ غير أنّ المؤشرات السياسيّة تظهر أنّها قد تتميّز في المرحلة القادمة بأن تكون أكثر حزمًا في الممارسة العملية، وهو ما أشار إليه “وانغ يي” نائب وزير الخارجية الصيني، بحيث أشار إلى أنّ “السيطرة على السياسة وصنع القرار في الشؤون الخارجية للصين لازم دائمًا كبار القادة في البلاد”، في تأكيد مبطّن منه على أن شخصية الرئيس الصيني شي جين بينغ سيكون لها اليد في تغيير مسار توجهات السياسة الخارجية للصين، كما وفي تحديد مستقبل الصين، وحتّى تشكيل السياسة العالمية.
وبالفعل، بدا التوسّع في السياسة الخارجية الصينية واضحًا في مبادرة طريق الحرير الجديد، كخطوة لوجستية ترسي طموحات الصين الجيوسياسية على نحو يصل الصين بآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا، بطريق واحد مبدأه السكك الحديدية، وحزام واحد محوره سبل الاتصال البرية التي تضم الطرق وأنابيب الغاز العابرة لوسط آسيا. فيهدف مشروع (OBOR) لبناء شبكة من السكك الحديدية والموانئ والطرق والبنية التحتية للطاقة من شأنها أن توحد الكتلة الأرضية الأوراسية، وربط الصين مع الأسواق في أوروبا امتدادًا في جميع أنحاء روسيا والشرق الأوسط،. وحيث تفيد هذه الخطوة في تقوية نفوذ الصّين الدبلوماسي، فإنها تخدم بالمثل طموح الصين للتوسع الإستراتيجي بإعتبار أن الإستثمارات تحقق أرباحاً جيوسياسية أكبر من العائدات الاقتصادية.
العلاقات الصينية مع دول النفوذ في المنطقة
في ضوء المسؤولية المُلقاة على عاتق الدول الكبرى الدائمة العضوية بمجلس الأمن بالحفاظ على السلام والاستقرار العالميين، سعت الصين بالإشتراك مع روسيا إلى توجيه دعوة لنظراءها من الدول النافذة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، للتخلي عن عقلية الهيمنة وبناء نوع جديد من العلاقات بين القوى العظمى يتسم بالتنمية السليمة والمستقرة على الامد الطويل.
وإنّ العلاقات الصينية الروسية رغم التناقضات على صعيد السياسة الدولية من حيث الإمتداد الإستراتيجي لروسيا نحو الشرق الأوسط والتدخل العسكري في سوريا، تبين عدم وجود نقاط خلافية آنية؛ إذ تطمح الصين لتوطيد علاقتها مع روسيا لتأمين الطاقة ويقابل ذلك رغبة روسيا بمنع إتصال الشرق الأوسط بأوروبا من خلال أنابيب الغاز المارة في تركيا، وهو الذي يخدم مصالح الصين.
في المقابل، بقيت العلاقات الصينية الأميركية غريبة عن هذا النمط المسالم من حيث التصادم الحاد في مصالح الطرفين ووجود نقاط خلافية وتنافسية حادة، تقابلها جهود أخرى للتعاون. فبينما تسعى أمريكا لضمان عدم بروز نجم الصين في المحيط الآسيوي والأوروبي، فإنّها تهدف إلى كسر الحلف والدعم الروسي لها. ومن جهتها، تتجنّب الصين جاهدة محاولات إشراكها في النزاعات والتكاليف العسكرية المرتبطة بالشرق الأوسط.
وفي دراسة علاقة الصين بالشرق الأوسط، يبرز بالضرورة قدم العلاقات والروابط التاريخية بين الصين وإيران التي تعود إلى ماضي طريق الحرير، وما يوازي ذلك حديثًا من أوجه التعاون والمساعي المشتركة إلى إعادة إحياء هذه التواصل البري الموصول إلى الشرق الأوسط، بما يؤشر على أهمية العلاقات الصينية-الإيرانية وإنعكاساتها على المنطقة. وقد تخطى التعاون الصيني-الإيراني إطاره التجاري ليشمل الدعم التسليحي والتكنولوجي لإيران أثناء حربها مع العراق؛ كما كان للصين حتى اليوم المشاركة المهمة في المشاريع التنموية الإيرانية، حيث عقدت في هذا الشأن عدة إتفاقيات تجارية وإقتصادية مشتركة في مجال بيع الغاز الطبيعي.
على الصعيد الجيوسياسي، تشكّل إيران بالنسبة للصين عمقًا إستراتيجيا باعتبارها منفذًا لها إلى الخليج، كما وتمثّل أداةً فاعلة لسياساتها، لها أن توازي بها القوى الغربية تأثيرًا في الشرق الأوسط. ومن جهتها، ترى إيران في الصين سندًا لها باعتبارها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن وإمتلاكها لحق الفيتو الذي يجيز حمايتها من العقوبات الدولية. فأصبح يفيد إيران في هذا الشأن التوافق مع الصين على المواقف السياسية المشتركة تجاه القضايا الإقليمية والدولية، بما يكسبها شريكًا قويًا في مواجهة هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على محيطها.
أما وقد إتّضح عمق الرابط في العلاقات الصينية-الإيرانية، على النحو الذي يبرّر ثقة المقاومة بالصين بدعوة الدولة إلى تعزيز الشراكة معها لإنقاذ لبنان وتقويته بمواجهة التدخلات الأميركية والتهديدات الإسرائيلية؛ فقد بات من الأهمية إستطلاع مدى الدعم الذي قد توفره الصين للبنان والمقاومة في العداء لإسرائيل. إذ بعيدًا عن الموقف الموثّق من القضية الفلسطينية، صرّحت الصين أنها بوصفها صديقة لإسرائيل وفلسطين، تتخذ دائما موقفا موضوعيا وعادلًا وترغب في بذل جهود مشتركة مع كل الأطراف لتعزيز عملية السلام في الشرق الأوسط.
في إستطلاع العلاقات بين الصين وإسرائيل، نتنبّه إلى أن هذه العلاقات أخذت بالتقارب في السنوات الأخيرة مع تزايد التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين البلدين حتى أصبح التعاون مع الصين أحد ضمانات نمو الاقتصاد الإسرائيلي، بفعل الدور الرئيسي الذي تمارسه الاستثمارات الصينية في المجال التقني وقطاع البنى التحتية. بدورها، أدركت الصين أهمية تطوير العلاقة مع اسرائيل إنطلاقا من الثقل الكبير الذي يراه البعض في دور اللوبي الصهيوني المؤثر في صنع القرارات الأميركية؛ ما يشكّل بطبيعة التنافس الإقتصادي دافعًا للصين لتوظيف العلاقة مع إسرائيل ويضمن إتخاذ قرارات لا تشكل تهديدا للصين بل تخدم مصالحها مع الولايات المتحدة الأميركية.
وحيث تبدو علاقة الصين مع الولايات المتحدة، باستمرار وكأنّها “فخ ثوسيديديس” أو النمط التاريخي الذي يشير إلى أن أي قوة صاعدة لابد أن تصطدم حتماً بالقوة المهيمنة؛ فإنّ المواجهات المباشرة بين الدولتين قد تكون مستبعدة، حيث لن يكون بإمكان الصين كسب المعارك المحلية في مياه الصين الإقليمية لو حصلت، على الرغم من مقدراتها العسكرية، نظرًا لما تتسم به المنطقة البحرية التي تطالب بها الصين من حساسية في مواجهة الفيليبين وفيتنام وبروناي وماليزيا. ففي حين تؤكد الصين من خلال سيطرتهاعلى الجزر سيادتها عليها، تستمر الولايات المتحدة الأميركية بتسيير بوارجها الحربية بإنتظام تحديًا للصين في مياهها الإقليمية، في تأكيد على ما أشارت إليه دائمًا عن إلتزامها بالدفاع عن “المصالح الدولية” إذا ثبت أن الجزر تقع في المياه الدولية.
أمام جدّية التوتّر في العلاقات الأميركية-الصينية، والحذر من أن تتخذ هذه المناكفات وتيرة تصاعدية مباشرة بين الدولتين؛ نعود من حيث إستبعاد الرأي المرجّح للحرب المباشرة، إلى إحتمالية أن يكون الشرق الأوسط ساحة للصراع لإعادة توازن القوى تحت ذرائع التحالف والدفاع. وإذا ما استشرفنا المدى الذي كانت لتشكل بموجبه نزاعات الشرق الاوسط ملفات تعامل وتنازع بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، نتبيّن من حكمة الصّين في خيارها الأخير بإبعاد السياسة الخارجية الصينية عن أن تحلّ بموضع مواجهة الولايات المتحدة.
نخلص ممّا تقدم، إلى أهمية التأني بالقرارات الإستراتيجية، والتحلّي بالحكمة في مقاربة المصالح المشتركة، والتعامل مع التهديدات والتحديات المرتبطة بالاستقرار الدولي في إطار تعاون أمني يتميز بالانفتاح والشفافية والمساواة والشمولية. فنوصي ختامًا بضرورة تشجيع الدول الكبرى النافذة في المنطقة على تسوية نزاعاتها من خلال الحوار والتفاوض، بما يضمن إستراتيجيًا التوازن الدولي ويكفل السلام والأمن في الشرق الأوسط.لارا الذيب- باحثة قانونية إستراتيجية، خاص لوكالة أنباء “رياليست”