يعد برامج التحول الاقتصادي في دولة ماليزيا، من أفضل التجارب العالمية في بناء الخطط الاقتصادية التنموية وتأثيرها المباشر في تقدم الشعوب. وركزت مظاهر التحول على مبادرات الإصلاح الاستراتيجية التي ترمي إلى توسيع نطاق المبادرة الخاصة، وتحسين المهارات، وزيادة القدرة التنافسية، وترشيد القطاع العام، واتخاذ إجراءات إيجابية مساعدة للنمو، والارتقاء بالقاعدة المعرفية وبالبنية التحتية، وتعزيز قطاعات مختارة، وكفالة الاستدامة البيئية والضريبية.
لقد مر التحول الاقتصادي في ماليزيا بثلاث مراحل من النمو: بدأت المرحلة الأولى من عام 1957 حتى عام 1969، واعتمدت في الأساس على السلع الأولية البدائية، حيث ظلت ماليزيا ولمدة طويلة تعد أكبر بلد منتج ومصدر في العالم للمطاط وزيت النخيل والقصدير والأخشاب الاستوائية غير الصنوبرية، في حين جاءت المرحلة الثانية من عام 1970 وحتى عام 1990 تقريبا، حيث بدأ التصنيع وبدأت بالتالي السلع المصنعة تتفوق على جميع السلع في صادرات ماليزيا.
وهدفت المرحلة الثالثة للنمو التي بدأت من عام 1990 حتى عام 2020، إلى تحويل ماليزيا لدولة متقدمة تقدما تاما في عام 2020، بالاعتماد الأساسي على التصنيع. وارتكز النموذج الماليزي في تحريكه لعملية النمو الاقتصادي على تعظيم دور القطاع الخاص في التنمية، حيث عمل على تحويل ملكية عديد من المشروعات إلى القطاع الخاص مع الاحتفاظ بسهم خاص في إدارة المؤسسات ذات الأهمية الاجتماعية والاستراتيجية، كما اعتمد بدرجة كبيرة في تمويل الاستثمارات على الادخار المحلي، وشكل الاستثمار الأجنبي المباشر الدافع الرئيس للنمو في قطاع التصنيع بماليزيا، معتمدة في استراتيجيتها التنموية التركيز على التحول من دولة منتجة ومصدرة للمواد الخام إلى دولة صناعية تكتسح صادراتها أسواق الدول المتقدمة.
لقد كان لليابان دور هام في نجاح التجربة الماليزية، ولم تكن عملية الاستعانة بالتجربة اليابانية تقليداً محضاً بل تم اختيارها؛ لأنها تناسب ماليزيا من جميع النواحي، ولعل أبرز جوانب الاستفادة من تجربة اليابان هو الاستثمار الياباني المباشر.. إذ تعلمت ماليزيا أفكاراً عملية ووضعتها موضع التنفيذ كسياسات تعبئة المدخرات المحلية لتكوين رأسمال لتمويل مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى جانب الاستفادة نظرياً من اليابانيين.
وقام اليابانيون بتقديم عدة برامج تدريبية، منها برنامج التدريب المهني عن طريق (وكالة التعاون الدولية اليابانية)، وهو ما مكن ماليزيا من الاستفادة في مجال التدريب الصناعي، ثم برنامج (التبادل الثقافي) الذي مُوّل من جانب مؤسسات يابانية لتشجيع الماليزيين على التعرف على الثقافة اليابانية، وإتاحة الفرصة للماليزيين لدراسة التجربة اليابانية من جوانبها المختلفة.
وإذا أردنا اليوم أن نسقط هذه التجربة على واقعنا في سورية، فالسؤال البديهي الذي يتبادر للجميع: كيف ومن أين نبدأ؟
إن اختيار الشريك والحليف الاستراتيجي، هو الخطوة الأولى نحو تبنّي منهجية التحول الاقتصادي، ومن ثم تتم دراسة كافة ممكنات الإنتاج وعناصرها وموادها، وخلق البيئة التشريعية من أنظمة وقوانين، بهدف تحقيق الموائمة نحو التحول الاقتصادي المنشود.
وباعتبار أن جمهورية روسيا الاتحادية، تعد الشريك الاستراتيجي والحليف الأقوى للجمهورية العربية السورية، فلابد من أن يكون لها دور اقتصادي هام، يعود عليها وعلينا بالمنفعة المشتركة وتحقيق التكامل من خلال هذه الشراكة الهادفة ذات البعد الاستراتيجي.
وسأشرح هنا بإيجاز عن واقع الاقتصاد الروسي:
تحتل روسيا المرتبة الـ12 في العالم من ناحية الناتج المحلي الإجمالي، وهي السادسة عالمياً من حيث القوة الشرائية، كما تحتوي على أكبر احتياطي غاز في العالم، وهي أكبر مصدر له.
وتساوي مساحة روسيا سطح كوكب بلوتو، وتستحوذ على سُبع كوكب الأرض، فهي أكبر دولة في العالم بمساحة 17 مليون كيلومتر مربعا. وهذه الحقائق الـ5 ليست إلا رأس جبل الجليد، فروسيا لديها ربع احتياطي الغاز في العالم، وتبلغ احتياطاته التي تعد الأكبر، 1.7 تريليون قدم مكعبة، وهو أيضا أكبر مصدر له، وإضافة إلى ارتكاز روسيا على قطاع النفط والغاز لدعم اقتصادها، فهي تعتمد أيضا على قطاع الزراعة التي فاقت صادراته الأسلحة العام الماضي.
ويأتي اليوم قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتعيين سفير موسكو لدى دمشق، ألكسندر يفيموف، ممثلا رئاسيا خاصا لتطوير العلاقات مع سوريا، لتمكين هذه العلاقة الاستراتيجية والتاريخية، للانتقال من مرحلة الحليف المدافع عسكرياً، إلى الحليف الاقتصادي لبناء تنمية واقتصاد موجه يعود بالنفع على الدولتين.
في الحقيقة، إن انتصار الجغرافية السياسية لروسيا اليوم هو العامل الوحيد الذي يمهد الطريق أمام سيطرتها على أسواق مبيعات واسعة في مناطق مختلفة من العالم، مما يعطي قوة دفع لتحقيق انفراج اقتصادي حقيقي لها ولشركائها، وهذا يؤكد عملية التكامل على عكس ما تسوّق له بعض الجهات والأقلام المأجورة، لقد تمكنت روسيا من ضمان وجودها العسكري بشكل دائم في سورية، وبذلك ستكون قادرة على توظيف قوتها العسكرية إلى قوة اقتصادية انطلاقا من الشرق الأوسط، لتصل إلى كامل أفريقيا في وقت لاحق.
أما بالنسبة للمنافسة العادلة في السوق العالمي فإن وجود قوة عسكرية في منطقة ما يعود بفوائد أكبر من عقد اتفاقيات تجارية، ولعل التحالف الأمريكي مع منطقة الخليج في سبعينيات القرن الماضي خير شاهد تاريخي على ذلك وما أفرزه من نهضة وطفرة في اقتصاد تلك المنطقة مع اختلاف وتباين القيم والمبادئ بين الحليف الأمريكي والروسي.
نرجو أن تكون الخطوات القادمة لهذا التحالف أن تحمل ملامح اقتصادية بنيوية، تساهم بشكل فاعل في بناء منهجية كاملة للتحول الاقتصادي في سورية والنهوض بها من جديد.
خاص وكالة “رياليست” – د. ياسين العلي – باحث إقتصادي سوري.