الرباط – (رياليست عربي): مُني حزب العدالة والتنمية بهزيمة كبرى في الانتخابات التشريعية المغربية التي جرت يوم 8 أيلول/ سبتمبر الجاري. ومن 125 مقعداً في انتخابات 2016 تدحرج إلى 12 مقعداً نيابيا فقط في استحقاق 2021.
وقبيل إغلاق صناديق الاقتراع قال الحزب إن “خروقات خطيرة” تمس نزاهة الانتخابات. بينما تصدر حليفه في الحكومة المنتهية حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يرأسه وزير الزراعة المقرب من البلاط عزيز أخنوش، الانتخابات ب97 مقعدا بعد عملية فرز أصوات الناخبين بلغت 50.35 بالمئة من مجموع الكتلة الناخبة، وكان الحزب قد حصل على 37 مقعداً فقط في الانتخابات البرلمانية عام 2011، وهو الاستحقاق الذي فاز فيه حزب العدالة والتنمية الإسلامي ب107 مقاعد في ظرفية عرفت خروج حركة احتجاجية واسعة مطالبة بإقرار إصلاحات اجتماعية وسياسية عميقة، في سياق موجة الاحتجاجات في منطقة الشرق الأوسط الكبير، مكنت الحزب من قيادة الحكومة حتى 2016 دخل خلالها في تحالفات سياسية مع عدد من الأحزاب تنوعت ألوانها بين محافظين وعلمانيين وليبراليين.
وتُظهر هذه المعطيات حجم التحول خلال هذه المرحلة الانتخابية التي اعتبرت حاسمة لتحديد مصير العدالة والتنمية في الحكومة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن وزراء الأحرار احتفظوا خلال فترة الحكومة المنتهية ولايتها بحقائبهم في القطاعات الرئيسية وتشمل الزراعة والاقتصاد والمالية والسياحة والتجارة.
وبعد دعوة للاستقالة وجهها الأمين العام للعدالة والتنمية ورئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران، استجاب سعد الدين العثماني الأمين العام ورئيس الوزراء الحالي (المنتهية ولايته) والذي فشل في الحفاظ على مقعده بالعاصمة الرباط، للضغوط التي تصاعدت داخل حزبه بعد نتائج مخيبة، وصفها بن كيران بـ”الهزيمة المؤلمة”.
يقضي الدستور المعدل في 2011 بتعيين الملك، وفقاً للفصل 47، رئيساً للحكومة من الحزب السياسي المتصدر لانتخابات أعضاء مجلس النواب، ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها باستثناء وزارتي الداخلية والأوقاف والشؤون الاسلامية. وقد عرفت البلاد منذ أول دستور لها عام 1962 أربع تعديلات، ثلاثة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، احتفظ فيها الأخير بصلاحيات السلطة التنفيذية حتى آخر تعديل، والأول، في عهد محمد السادس الذي تنازل عن حيز كبير من الاختصاصَات لرئيس الحكومة، غير أن العلاقة بين السلطة التنفيذية والمؤسسة الملكية بقيت غير مضبوطة بسبب تداخل الاختصاصات، فمن جهة يرأس رئيس الوزراء مجلس الحكومة الذي يتداول في العديد من القضايا والنصوص ويطلع الملك على خلاصات المداولات، بينما يرأس الملك المجلس الوزاري وفق الفصل ٤٨ من الدستور ويتداول في القضايا الكبرى والتوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة ومشاريع القوانين والمصادقة على العديد من النصوص والقرارات.
بفضل قاعدة انتخابية قوية تمكن العدالة والتنمية من الظفر بولايتين حكوميتين، بيد أن نتائج انتخابات أيلول/ سبتمبر 2021 جاءت مفاجئة للحزب على ضوء سقوط مدوي يثير عددا من التساؤلات. وفي خضم هذه التساؤلات يظهر معطى قوي، لم ينكره حتى العدالة والتنمية نفسه، وهو ما سمي ب”العقاب الانتخابي” الذي مارسته قاعدة الحزب الانتخابية التقليدية، عبر صناديق الاقتراع، وقد اعترف الحزب في بيان له بفشله، كما تؤيد ذلك دعوة الأمانة العامة لعقد مؤتمر استثنائي ودورة عاجلة لاتخاذ الإجراءات المناسبة.
لفهم أسباب هذا السقوط المدوي، لابد من العودة إلى فترة تشكيل الحكومة عقب انتخابات 2016 التي تصدر نتائجها العدالة والتنمية، والتي اصطدمت بعقبات خلال المشاورات أدت إلى حالة انسداد أجبر أثناءه بن كيران على التخلي عن مهمته كرئيس حكومة مكلف ليُعوضه العثماني الذي سُحبت منه حقيبة الخارجية عام 2013، إثر تصريحات مساندة للإخوان المسلمين في مصر عقب الإطاحة بهم – وردت حينها معلومات تفيد بغضب الإمارات المناوئة للإخوان – والذي ينظر إليه على أنه رجل سياسة بدون كاريزما ويمكن الجزم بأنه القيادي الأضعف من بين الوجوه القيادية التي تحملت مهاما داخل الحكومة، مقابل حضور ملموس لبن كيران، وهنا يمكن الحديث عن بداية تراجع شعبية العدالة والتنمية، ليدخل في عام 2019 في حالة تجاذب داخلي شديد أدى إلى انقاسمه لتيارين، أحدهما موالي لبن كيران، وذلك بسبب قبول العثماني قانونا أثار جدلا واسعا يتعلق بتعميم استعمال اللغة الفرنسية في جميع أسلاك التعليم، في مخالفة مفضوحة للدستور الذي لم يعترف لها بمشروعية، مع الأخذ بعين الاعتبار حساسية هذه النقطة، نظراً لارتباط اللغة الفرنسية تاريخياً بالثقل السياسي للمنظمة الدولية للفرانكفونية على مراكز القرار في البلاد وتدخل الأخيرة في الاختيارات الداخلية للحكومات المتعاقبة، وبذلك تكون هزيمة العدالة والتنمية متوقعة.
وكانت “حالة الانسداد” المفتعلة خلال مشاورات 2016 المسار الذي رُسم سلفاً للدفع بالحزب نحو حالة الضمور، بل وتفجيره من الداخل، ليس فقط بدفع “الغريمين” بن كيران والعثماني إلى التصارع فقط – وهو ما حدث – وإنما أيضاً باستمالة التيار الأمازيغي من طرف أحزاب مقربة من المراكز الرسمية، والذي تسبب صداه في حالة صدام أيديولوجي وسط قواعد العدالة والتنمية وبدا تأثيره داخل الحزب واضحاً، وكذلك بإثارت “فضائح أخلاقية” متتالية مرتبطة بشخصيات بارزة في الحزب. وتداخلت عوامل قوية في إيصال الحزب لهذا الحال، كتمرير قانون تقنين القنب الهندي في عهد حكومة العثماني وهو ما يتعارض مع القناعات الدينية والقيمية التي دافع عنها الحزب ذو المرجعية الإسلامية. وقد انتهى الأمر بأمينه العام رئيس الحكومة المنتهية سعد الدين العثماني، الى التوقيع، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، على وثيقة التطبيع مع إسرائيل، تلتها تصريحات مثيرة لعدد من وزرائه، اعتبروا فيها الذهاب الى إسرائيل، إذا دعت الضرورة، عملا وطنيا لصالح الدولة، أخذا بالاعتبار ترسخ إسرائيل في أدهان عموم المغاربة كمنطقة محظورة، وبذلك يكون هذا العامل، قد شكل الضربة القوية التي قسمت ظهر العدالة والتنمية، وتسببت في صدمة لدى شريحة واسعة من القاعدة المتدينة والمحافظة التقليدية للحزب.
بيد أن سقوط العدالة والتنمية المدوي متراجعاً بـ 90 بالمئة وراء ثمانية أحزاب بعضها كان حضوره دائماً هامشياً في الساحة السياسية؛ نقرأه، أيضاً، على أنه أحد نتائج الثقة الزائدة لدى كوادر الحزب والعديد من المؤثرين داخل قواعده التنظيمية، وقناعتهم التي ترسخت خلال العشر أعوام من الحكم، بأن الدولة العميقة لم تعد لها قدرة على التخلي عنه، وأنه أصبح جزءاً من مركزية الدولة، وبأنه اليوم هو معادلة قوية في ضمان استمرار استقرار الأوضاع في البلاد. فمن أجل إثبات قدرته على التماهي مع الدولة ومسايرتها في قراراتها، ومن أجل إظهار أنه مدافع كفء عن النموذج الديمقراطي الذي تبنته البلاد عقب أحداث انتفاضة 20 شباط/ فبراير 2011، لم يتوانى وزراؤه وزعيماه، رئيسا الحكومة، السابق عبد الإله بن كيران والمنتهية ولايته سعد الدين العثماني، في مهاجمة تقارير وهيئات محلية ودولية، وتكذيب كل ما يكتب عن الوضع الحقوقي في البلاد، بهدف إرضاء جميع الأطراف المقربة من مراكز القرار الرسمي، كما كانت تداعيات سياساته الاجتماعية مجحفة في حق المواطنين، أمام إبدائه ميولا كبيرا نحو مؤسسات النقد الدولية. وتقول، في هذا الصدد، بعض التقارير، إن الحزب طبق سياسة ليبرالية متوحشة في ولايته الأولى 2011- 2012 ثم بشكل أفظع بين 2016 – 2021 لم يشهدها المغرب مع الحكومات السابقة.
وشملت الإجراءات التي اتخذها الحزب خلال ولايته، والتي وصفت بأنها “غير شعبية” المجالات الأساسية كالصحة والتعليم الحكومي مقابل العناية بالتعليم الخصوصي، وطبعها تراجع معدلات التوظيف، وارتفاع المديونية إلى ما يقارب 100 مليار دولار، وقد حرك نظام التعاقد – التوظيف الحكومي بعقود – الذي طبقته الحكومة على المعلمين الجدد، الاحتجاجات القطاعية في البلاد، في مقابل ذلك عرفت الحركة العمالية تضييقا من خلال قوانين تحد من حرية الإضراب وتقتطع من أجور المضربين. كما شهدت ولايتي العدالة والتنمية هجوما كبيرا على الحركة الحقوقية، تخللتها اعتقالات في صفوف العديد من النشطاء والصحافيين، دافع عن قانونيتها رئيس الحكومة ووزير حقوق الإنسان، مصطفى الرميد، المنتمي لنفس الحزب، بالموازاة مع ذلك تخلى العدالة والتنمية عن شعاراته المركزية بتخليق الحياة الإدارية والعامة وتحسين خدمات القطاع الاجتماعي، كما تخلى رئيس الحكومة المنتهية ولايته تماما عن أغلب صلاحياته، ليبرز في المشهد بمظهر الخانع الراضخ لارادة المتحكمين في الاقتصاد الوطني وأصحاب النفوذ داخل الدولة، مستسلما أمام الفساد الذي زاد استشراؤه في مؤسسات الدولة.
وإذا نظرنا إلى نتائج 2011 التي فاز فيها العدالة والتنمية ب 107 وانتخابات 2016 التي أحرز فيها ١٢٥ مقعداً، فسنلاحظ أن الحزب حافظ على شعبية قوية، إذا لم نقل أنها زادت على الرغم من التدمر الذي ساد مختلف الأوساط نتيجة حزمة من القرارات المجحفة، ويرتبط هذا الواقع بعاملين أساسيين، العامل الأول قدرة أمينه العام آنداك عبد الإله بن كيران على صياغة خطابات شفهية لم يستعن فيها يوما بورقة، وبطريقة ارتجالية عفوية هجومية، وظف فيها اتهامات مبطنة وأحيانا واضحة لجهات نافذة وصفها ب”المتحكمة” في قرارات الحكومة، واستعمل جملا فهم من إيحاءاتها أن الملك هو الرئيس الأعلى لرئيس السلطة التنفيذية، وبذلك استطاع إقناع جمهور واسع من المصوتين أنه أجبر على تنفيذ سياسات القصر كُرها، الشيء الذي رأت فيه قاعدته الانتخابية أعذاراً واقعية.
أما العامل الثاني فيتعلق بظروف إقليمية ارتبطت بانقلابات على أحزاب الإخوان المسلمين في مصر وتونس، ودعم التيارات والرموز العلمانية، مغربياً وعربياً، لسقوط الأنظمة الإخوانية، وهو ما أنتج ردة فعل دينية بامتياز لدى فئات محافظة واسعة داخل المجتمع المغربي، رأت في ما وقع في البلدين العربيين استهدافا للاسلاميين ولنموذج الحكم الإسلامي، بل وللاسلام نفسه، وقد لعبت المجموعات الموالية للحزب النشيطة على شبكات التواصل دورا كبيرا في هذا الباب.
في مقابل تعاظم الاقتصاد المغربي وتزايد نفوذه خارج البلاد، خاصة في أفريقيا، نجد أن القدرة المعيشية لعموم المغاربة قد تضررت خلال فترتي قيادة العدالة والتنمية للحكومة، وفاقمت الجائحة الوبائية الأزمة المعيشية، وأمام تقارير وطنية ودولية تحذر من تفاقم الوضع الاجتماعي المتضرر، وفي محيط مأزوم مهدد بعدم الاستقرار السياسي (الجزائر، ليبيا، تونس) وموجات هائلة من الهجرة غير الشرعية من جنوب الصحراء، وتعاظم تهديدات التنظيمات الإرهابية كتنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة، ومع بروز موجات جديدة من الاحتجاجات، قرر النظام الملكي اتخاذ إجراءات استباقية، تهدف إلى خلق تنمية واسعة في البلاد، تستهدف الفئات المتضررة اقتصاديا والشباب العاطل، وفي وضع سياسي غير منسجم عجز معه العدالة والتنمية عن خلق توازنات مع أحزاب المعارضة ومكونات الأغلبية وكذا لوبيات المال والاقتصاد، ينضاف إليه تصادمه مع المجتمع الحقوقي والنسائي الذي يسيطر عليه العلمانيون، تشكل في خضم ذلك واقع سياسي وحقوقي لم يعد فيه التوافق مع العدالة والتنمية ممكناً، لذلك، يكون اختيار الحزب الإسلامي التموقع داخل المعارضة خيارا في منتها الذكاء والوطنية، عوض الدخول في حكومة لن يكون مقبولا داخلها، وبالتالي يكون قد تم الحكم على الانسجام بالإعدام. فالمرحلة تقتضي صعود شخصية اقتصادية بامتياز وإدارية، تتمتع بشبكات واسعة مع مجموعات الضغط الاقتصادي ومع جماعات الممانعة داخل إدارات الدولة، وتتسم في نفس الوقت بلون سياسي حزبي قطعا للطريق عن التكنوقراط والحؤول دون العودة وراءً إلى ما قبل دستور 2011. فحل معظلة المعيشة والتوظيف والقطاع الخدمي الأساسي، وتخفيف الأزمة الاجتماعية في ظل موجة كورونا، لا يمكن أن يتم تحت يد العدالة والتنمية، ويظل عزيز أخنوش بصداقاته مع رجال الأعمال ونفوذه السياسي المستمد من قربه من القصر، وبعدم تشدده في مواقفه، ولكونه يمثل إرادة النظام الملكي في إنقاذ البلاد من تدهور في الاقتصاد الاجتماعي، الخيار الوحيد المتوفر في المشهد السياسي المغربي.
هذا من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، غير أن المسار الذي اتخذه المغرب منذ نتائج انتخابات 2016 لا يصب في استكمال بناء مؤسسات دولة القانون والحكم الرشيد. والانتخابات الأخيرة، وكما أشرنا، فإن نتائجها ستكون لها انعكاسات جد إيجابية، مع شخصية أخنوش التوافقية، على الاقتصاد الاجتماعي والتوظيف، وعلى معيشة المواطن إلى حد ما، غير أنه من ناحية حقوق الإنسان والديمقراطية، وعمل الأحزاب باعتبارها آليات التمثيل الديمقراطي، فإن الوضع لن يكون إلا تكرارا لما سبق تجريبه خلال مراحل سابقة، خاصة قبل الدستور الحالي، حيث ظل الرهان على تغيير الوجوه واستبدال أحزاب بأخرى لقيادة الحكومة، السمة الطاغية، مع تنويع المشهد الحكومي بإضفاء لمسة التكنوقراط وهي الفئة التي يُطرحُ معها سؤال الغاية من الانتخابات، وذلك بدل تحصين المكاسب الديمقراطية بمزيد من بنود وشروط الاستقلالية وربط عمل الحكومة بالمساءلة والمحاسبة وضمان نزاهة الانتخابات.
خاص وكالة “رياليست” – نبيل بكاني – صحفي وباحث في علوم السياسة وإدارة الأزمات – المغرب.