إن الباحث في بحر الاستراتيجية والأمن القومي، ورغم أنه ابن بيئته ويتأثر بمحيطه وبترسبات شخصيته الرئيسية التي راكمها الدين والتجربة والمحيط العائلي والأفكار، إلا أنه مطالب بتجنب ردات الفعل الآنية وأحكام القيمة الفورية وأن يتعامل مع الظواهر بعيون تحليلية وتفكيكية باردة وإن لم تكن دائما في منأى عن الذاتية المتحكمة في اللاشعور المتربص بأية محالة للانفكاك عن قبضة العاطفة وهو ما يكبح محاولات الهروب إلى فضاءات الحرية الفكرية والتحليل الموضوعي.
إن حتمية الانتماء العربي والإسلامي وجدلية الارتباط بالقضية الفلسطينية تجعلنا نتحسر على الظروف التي دفعت بعض الدول العربية إلى التطبيع مع كيان معتدي وغاصب ولا يمكن للقوانين السماوية والمواثيق الوضعية إلا أن تستنكر وترفض وجوده فوق الأراضي العربية التي استباحها في كل من فلسطين وسوريا وقبل ذلك في مصر.
هذا الواقع لا يمنع من الاعتراف بأن دولة الإمارات العربية والمتحدة وباقي الدول العربية، كل حسب قدرته وقوته، قد ساهموا سياسياً ومالياً ودبلوماسياً في الدفاع عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين وهو ما تؤكده عشرات الاجتماعات والقرارات التي عبرت عنها الدول العربية والإسلامية وأيضا جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهو ما لا يمكن أن ينكره أو يزايد عليه أحد.
في هذا السياق، وأمام هذا الهاجس القومي والمعطى الأخلاقي لابد من محاولة فهم سياقات المبادرة الإماراتية وإلى أي حد يمكن أن يشفع لها التاريخ هذا الاتفاق الذي اعتبره البعض طعنا في ظهر “القضية” واعتبره البعض الآخر انسلاخا من الدين وخروجا عن الإسلام.
ولمحاولة فهم سياقات تشكل التوجه الإماراتي لابد من قراءة البيئة الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي لنرى إلى أي حد ربما كانت أبو ظبي مضطرة إلى إعادة تموقعها على خارطة المنطقة في ظل مجموعة من المؤشرات تقطع بأن بعض القوى الإقليمية تحاول أن توسع من هامش المناورة والتمدد على حساب دول الخليج العربي.
على هذا المستوى من التحليل فإن أساس المناورة الاستراتيجية يكمن في الحفاظ وضمان حرية الفعل والحركة من جهة، وحرمان العدو من نفس الامتياز. هذا الإكراه هو الذي ربما انتهى إليه الذكاء الاستراتيجي الإماراتي…لكن كيف؟
في أعقاب الحرب الباردة قامت واشنطن بإعادة تحديد أهدافها الاستراتيجية وحددت الهدف السياسي الاسمى في منع التمدد الروسي في أوروبا وأيضا الوقوف أمام بقعة الزيت الصينية المنطلقة من المشرق، وهو الطرح الاستراتيجي الذي نشره مستشار الأمن القومي السابق زبغنيو بريجنسكي في كتابه المرجعي “رقعة الشطرنج الكبرى” والذي يعتبر أحد أهم المراجع التي حددت التوجهات الاستراتيجية للإدارة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة.
ودون الرجوع إلى مضامين “مانيفستو برجينسكي” والذي تطرقنا إليه ضمن أوراقنا البحثية التي نشرها مركز رياليست، إلا أن أهم النقاط التي تهم منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط جاءت كما يلي:
- صنفت الاستراتيجية إيران وتركيا ضمن المحاور الجيوستراتيجية التي “يجب الحفاظ عليها وتقويتها” ومنحها هامشا كبيرا للتمدد والمناورة مع ضمان تبعيتها وارتباطها بالمشروع الامريكي في المنطقة.
- اعتبرت واشنطن أن تركيا وإيران يمكن أن تتقاسما النفوذ في المنطقة باعتبار أن أنقرة يمكن أن تكون مركز ثقل الإسلام السني وتستفيد من انتشار أذرعها ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين لإخضاع الدول الإسلامية السنية لسلطتها، وإيران مركز ثقل الإسلام الشيعي، وهو ما سيحقق هدفين استراتيجيين:
- تحقيق مبدأ توازن القوة في المنطقة وهو أحد مرتكزات وقواعد المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية والتي تبنتها واشنطن منذ سنة 1948م (هانز مورغانتو)، بحيث تصبح تركيا القوة السنية في المنطقة وإيران القوة الشيعية وإسرائيل القوة اليهودية، وتعمل الولايات المتحدة الأمريكية على ضبط هذا التوازن والحفاظ عليه.
- الهدف الثاني هو رسم جدار صد استراتيجي ضد التمدد الصيني ومحاولة الاعتماد على تركيا وإيران كقواعد متقدمة لمنع التمدد الأصفر إلى مساحات أكبر من المسموح به.
ومن خلال هاته الأهداف المسطرة، يبدو واضحا أن الاستراتيجية الأمريكية تجاوزت دولا من حجم وقيمة المملكة العربية السعودية والتي كانت ترى فيها واشنطن (إلى وقت قريب) وعن غير بينة الدولة الراعية والمصدرة للفكر والفرد الإرهابي المتطرف. في حين لم يكن يُنظر إلى الإمارات العربية المتحدة إلا كخزان من النفط والمال يمكن الاستفادة منه مقابل عمليات ابتزاز متكررة، في الوقت الذي رأت في مصر نظاما عسكريا متعود على الانقلابات والثورات.
هذا المنظور الاستراتيجي الذي كان سائدا في الولايات المتحدة الأمريكية إبان تسعينات القرن الماضي تغير بشكل كلي بفعل تغيرات وطفرات ضربت أهم مقومات البيئة الاستراتيجية الخليجية، حيث استطاعت الإمارات تطوير بنيتها الخدمية وقدراتها المالية واستطاعت أن تتحول إلى عاصمة المال والأعمال حيث وفرت الظروف المثالية لرجال الأعمال الذين يحلمون ببيئة مستقرة وآمنة ومتسامحة مثل الإمارات للاطمئنان على استثماراتهم ورؤوس أموالهم.
لن تكتفي الإمارات بهذا البعد الاقتصادي بل اتجهت إلى تقوية نفوذها الدبلوماسي والسياسي بالتوازي مع تحديث ترسانتها العسكرية ونشر قوتها الناعمة في قارات العالم الخمس، وتكاد لا تكون هناك أزمة عالمية (كوفيد 19) أو داخل منظمة دولية إلا وتجد الإمارات حاضرة ورقم صعب وحاسم في صناعة القرار السياسي الدولي.
بالإضافة إلى عناصر القوة التي أصبحت تتوفر عليها أبو ظبي، حاولت الإمارات تقوية عمقها الاستراتيجي الذي يمكن الارتكان إليه حسب إكراهات المواجهة وطبيعة مسارح العمليات، وهو ما نجح فيه ولي عهد أبو ظبي عندما ساهم في التأسيس لتحالف استراتيجي قوي يضم، بالإضافة إلى الإمارات، كلا من المملكة العربية السعودية ومصر والبحرين، ورأينا كيف يتحرك هذا الحلف في تناغم تام وبأدوار متبادلة ومتناغمة ساعدت في تحقيق الأهداف السياسية المسطرة في كل من الخليج العربي ونسبيا في العراق وسوريا واليمن وحاليا في ليبيا حيث خضعت تركيا لسياسة الأمر الواقع ومن المنتظر أن يستمر إنهاكها إلى غاية مغادرة التراب الليبي الذي يعد، بدوره عمقا استراتيجيا لمصر.
وفي الحقيقة فإن إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الامريكية على وعي تام بالمتغيرات التي طالت البيئة الاستراتيجية الخليجية، وعلى يقين بأن الرهان على الإمارات (بعمقها الاستراتيجي الحالي) سيمكنها من المحافظة على أمنها ووحدتها وسلامة أراضيها على المدى البعيد، خصوصا وأن أبو ظبي رسخت مكانتها كعاصمة التسامح والإنسانية وبالتالي فهي مؤهلة، أكثر من غيرها، لضمان التوافق والحوار والسلام في المنطقة.
من جهتها فإن الجبهة السعودية/الإماراتية/المصرية نجحت في قلب المعادلة في المنطقة ودفعت واشنطن إلى إعادة النظر في توافقاتها مع تركيا كأحد الأدوات الأمريكية لتنفيذ مشاريع الشرق الأوسط الجديد (باعتراف رجب طيب أردوغان نفسه) وأيضا إيقاف مشاريع التمدد الإيراني في المنطقة والذي أصبح واضحا أنه لا يخدم الأجندة الأمريكية وإنما يخدم مشاريع عنصرية وأجندات إرهابية قادرة على ضرب أهدافها في أي مكان في العالم.
ختاما يمكن القول بأن الإمارات العربية المتحدة رُبما نجحت، من جهة، في قلب المعادلة الاستراتيجية في المنطقة، ومن جهة أخرى، أصبحت في موقع يسمح لها بمواصلة مساعي السلام والدفاع عن القضية الفلسطينية رغم ما نالها من الإخوة الفلسطينيين من اتهامات وصلت إلى حد التخوين والتكفير من طرف كيان الضفة وجماعة القطاع واللذان لا يجمع بينهما إلا لغة العنف والإقصاء وهو ما أنتج لنا سلطتين سياسيتين أثبتا أنهما ساهما في إفشال وإقبار آخر أمل لتحقيق حلم شعبهم في دولة فلسطينية موحدة.
د.عبدالحق الصنايبي- متخصص في الدراسات الاستراتيجية و الأمنية، خاص “رياليست”.