تختلف استراتيجيات المواجهة في الحروب حسب البيئة الاستراتيجية في كل لحظة تاريخية على حدة. فهناك من فرضت عليه إكراهات الأرض والزمن والأدوات والوسائل ضرورة تبني أسلوب المواجهة المباشرة من خلال البحث على مركز ثقل العدو والعمل على إخضاعه، سواءا كان مركز الثقل ممثلاً في العاصمة السياسية أو في رأس الدولة أو القوات المسلحة (كلاوزفيتز)، ومنهم من يُفضل تكتيكات الدفاع الاستراتيجي (جبير، بيلو)، وأكثرهم يميل إلى استراتيجية الهجوم الغير مباشر التي نظر لها الاستراتيجي البريطاني بازل ليدل هارت.
ورغم أن التبلور المادي لاستراتيجية الهجوم غير المباشر سيكتمل في فترة ما بين الحربين العالميتين، إلا أنها لم تختمر في أذهان القادة العسكريين إلا بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أننا نجد آثارا لتطبيقات لها منذ قرون قبل الميلاد. وحتى نابليون، الذي كان مهووسا بالهجوم الاستراتيجي المباشر، فإنه كان يتبنى الهجوم على المؤخرات، والذي يدخل في نطاق الهجوم غير المباشر، كتكتيكات ثابتة وحاسمة في استراتيجيته الحربية.
وبإسقاط هذه الاستراتيجية على المواجهة المعلنة بين الإمارات العربية المتحدة وجماعة الإخوان “المسلمين”، نجد أن تعبيرات المواجهة المباشرة بين الطرفين تقتصر على المواجهة الإعلامية، حيث نجحت أبو ظبي في خلق وعي مادي جماعي بخطورة التنظيم الإرهابي وأجبرت أعتى المؤسسات الإعلامية (سابقا) على إسقاط شعارات الرأي والرأي الآخر والإعلان عن تموقعها ضمن محور (قطر-تركيا-إيران).
وفي نفس سياق استحضار المواجهة “الوجودية” بين الطرفين، لجأ الإخوان، بعد نجاح الشعب المصري في إسقاط مشروعهم الشمولي في مصر، إلى دول أخرى لها مآرب سياسية وتوسعية في احتضان الإخوان، حيث نجحوا في استغلال هذه الدول كخطوط خلفية لمواجهة الإمارات إعلامياً، ليس في الداخل الإماراتي فقط، بل وفي جميع الدول التي لها علاقات تاريخية واستراتيجية مع أبو ظبي وعلى رأسها المملكة المغربية.
ويمكن القول أن جماعة الإخوان تلجأ في حربها ضد الإمارات إلى ما يعرف باستراتيجية فابيوس والتي تعتمد على تفادي الاشتباك في المعركة لكسب الوقت واستخدام التأثير التخريبي على معنويات أبو ظبي وحلفائها، مع العمل على تفادي المواجهات المباشرة والاكتفاء بهجمات صغيرة محلية ك “وخزات الإبر” (راجع ليدل هارت “الاستراتيجية وتاريخها في العالم. ص 50).
من جانبها ترى أبو ظبي أن التنظيم “الإرهابي” للإخوان المسلمين يستغل الخطوط الخلفية بعيداً عن البيئة الداخلية التي كان ينشط فيها الإخوان، قبل حظرهم ومنع نشاطهم، للضرب في الصورة التي حاولت رسمها الإمارات كعرابة وراعية لقيم التسامح وفي مقدمة الدول المناهضة للفكر الشمولي المتطرف في بُعده التكفيري والسياسي الراديكالي.
وإذا كانت الإمارات العربية المتحدة قد تبنت مقاربة استراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى الارتقاء إلى مستوى الدول القوية إقليمياً ودولياً، من خلال الانفتاح على أسواق آسيا وأفريقيا واستغلال عائدات النفط لتنويع اقتصادها وعدم الاعتماد الحصري على عائداتها النفطية، فإن ذلك يمر، بالأساس، عبر تعبيرات سياسية ودبلوماسية في بيئات استراتيجية يُفترض أنها إيجابية وغير عدائية لدولة الإمارات.
إن نجاح الإمارات في بلورة شراكات سياسية واقتصادية في مصر، وضمان حليف قوي في ليبيا، وأيضا توافقات إيجابية مع أصدقائها في تونس والجزائر، لا يمنع من القول بأن المغرب الأقصى لا زال يترنح تحت رحمة الأطروحة الإخوانية والتي نجحت في ترسيخ صورة نمطية حول الإمارات وبالتالي توجيه القرار السياسي عكس الطموحات السياسية لأبو ظبي في محاولتها لتقريب النموذج الإماراتي من شعوب المنطقة لخلق بيئة سياسية متناغمة مع توجهات أبو ظبي أو على الأقل محايدة وغير عدائية.
ويمكن القول أن فشل البرلمان التونسي في سحب الثقة من رئيسه الإخواني راشد الغنوشي وأيضا عدم وضوح الخط السياسي الجزائري بالإضافة إلى الهزات التي عرفتها العلاقات المغربية الإماراتية كلها مؤشرات على تشكل بؤرة مغاربية عدائية لدولة الإمارات رغم التاريخ القوي الذي راكمته هذه العلاقات على عهد الرؤساء السابقين لدول المغرب العربي الثلاث.
وإذا كانت تونس قد سقطت ضحية المناورات الإخوانية التي ركبت على ثورة الشعب التونسي لسنة 2011 وبالتالي الارتماء في أحضان الأطروحة القطرية-التركية فإن تراجع الامتداد الإماراتي في المغرب مردُّه إلى أن أذرع قطر في المغرب تواصل مخططات الانتشار الأفقي والاختراق العمودي لمؤسسات الدولة وبالتالي النجاح في توجيه الوعي الجماعي للمغاربة لشيطنة كل ما هو إماراتي.
على مستوى الأهداف السياسية الكبرى للمشرعين الإماراتي والإخواني، فإننا أمام مشروعين متناقضين يستدعي وجود أحدهما القضاء على الآخر على اعتبار أن الإخوان المسلمين يتم تحريكهم لإنهاك الأنظمة من خلال محاولة خلق تناقضات سياسية واجتماعية وتعميق الأزمة الاقتصادية وخلق حالة من التوحش يتم الركوب عليها وإدارتها للوصول إلى حالة التمكين والتأسيس لأنظمة سياسية تابعة إيديولوجيا للإخوان المسلمين وسياسيا لمحور تركيا-أنقرة. في المقابل تسعى الإمارات إلى التعامل البنيوي والوظيفي مع الأنظمة السياسية ومساعدتها على تقوية بنائها السياسي والمؤسساتي لتفادي الهزات الاجتماعية التي قد تؤدي إلى فقدان السيطرة على الجماهير وبالتالي انهيار منظومة الضبط والربط فيصبح رأس النظام غير قادر على احتواء الوضع السياسي والاجتماعي وهو ما يفسح المجال لإيديولوجيات منظمة تترصد لمثل هكذا فرص لتوجيه الرأي العام الشعبي لما يخدم الاطروحات السياسية لجماعات الإسلام السياسي المؤهلة أكثر من غيرها لملئ الفراغ المؤسساتي بعد انهيار الأنظمة القائمة.
في هذا السياق، فإن هاجس الإمارات في الانتشار الاقتصادي يفترض أن يتم عبر دول شريكة مستقرة سياسيا وأمنيا ولا تتبنى موقفا عدائياً من أبو ظبي كمقدمة لإطلاق الشراكات بين هذه البلدان على قاعدة رابح-رابح، وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه في بيئات سياسية رافضة للتواجد الإماراتي وهو ما يمكن ملاحظته في بلد كالمغرب. أكثر من ذلك فقد تحول المغرب إلى خطوط خلفية لتوجيه الشعور الجماعي لبعض المسلمين العرب ضد الإمارات وحليفتها القوية المملكة العربية السعودية وصلت إلى حد الانخراط في الحشد للضرب في قوة الموقع والثقل الديني للمملكة ممثلاً في خدمتها لشؤون الحرمين الشريفين.
إن التجارة بالدين التي تلجؤ إليها تنظيمات الإسلام السياسي في المغرب وغيره لا تختلف عن التجارة باسم الدولة ومصالحها الاستراتيجية للوصول إلى أهداف تمكينية ومادية ضيقة. وإذا كنا قاصرين على تحديد التعبير الدبلوماسي والسياسي الصحيح في باقي بلدان المغرب العربي، فإننا نرى أن أبو ظبي مطالبة بإعادة توجيه ناصية قرارها الدبلوماسي في المغرب من خلال التعامل الذكي والناعم مع الحملة الشرسة التي يخوضها الإعلام الإخواني من خلال توضيح الأبعاد الاستراتيجية لبعض اختياراتها الخارجية (الحرب في اليمن، تصنيف الإخوان جماعة إرهابية، الموقف من إيران، الموقف في ليبيا، أبعاد وإكراهات التصويت على الملف الأمريكي لاحتضان مونديال 2026…)
هذا المعطى يفترض حضور إعلامي قوي يعمل على تحصين العلاقات المغربية/الإماراتية والترويج لأهميتها الاستراتيجية وانعكاساتها الإيجابية على البلدين مع الجرأة في فضح الأجندة الإخوانية في المغرب باعتبارها أجندة لا وطنية وتخدم مخططات فوق ترابية وفق التوجهات العنصرية للأردوغانية الجديدة، وهو ما يفرض، سلفا، ضرورة إقناع الرباط بأن أبو ظبي لا يمكنها أن تقف مكتوفة الأيدي أمام الهجمات الشرسة التي يقودها الإعلام الإخواني بتوجيه من مراكز القرار في إسطنبول والدوحة.
في نفس السياق، على أبو ظبي الجلوس على طاولة واحدة مع المسؤولين المغاربة وشرح الموقف الإماراتي وطرح جميع القضايا على طاولة التشريح والتحليل لتدليل سوء الفهم وردم الهوة التي أحدثها أذناب قطر في المغرب، مع ضرورة التركيز على أن التحرك الإماراتي هو تحرك دفاعي لا يهدف إلى التدخل في الشؤون الداخلية للمغرب وإنما للدفاع عن صورة وسمعة دولة في قيمة وحجم الإمارات العربية المتحدة، خصوصا في ظل عدم استيعاب البعض، للأسف، لخطورة المد الإخواني والذي يمكن أن يكلف استمراره على الساحة السياسية المغربية ارتدادات خطيرة سترخي بضلالها على الأمن القومي المغربي.
إننا نرى، كمغاربة، أن التيار الإخواني بالمغرب لن يرضى بأقل من رأس السلطة السياسية، وأن أجندته تتجاوز، بكثير، أجندة مجرد حزب سياسي عادي. كما أن التاريخ القريب يقطع بأن قطر كانت عرابة الفتنة والفرقة والانفصال في المغرب، وكانت سباقة لتداول عبارة “الصحراء الغربية”، وفتحت الجزيرة منصتها الإعلامية للانفصاليين من جبهة البوليساريو، بالإضافة إلى أنشطة مشبوهة على الشريط الحدودي والمنطقة العازلة التي تشرف عليها قوات المينورسو، وهي المعطيات التي تولد لدينا القناعة بضرورة الارتكان والاطمئنان للجبهة السعودية/الإماراتية التي لم تذخر يوما جهدا في الدفاع عن المصالح العليا للمغرب، وكانت مواقفها ناصعة وواضحة ولا تشوبها شائبة، رغم بعض التعارض في وجهات النظر والتي لا تخلوا منها العلاقات بين الدول.
فريق عمل “رياليست”