يمثل حزب العمال الكردستاني الرقم الصعب فى معادلة الصراع التركية الكردية، تلك المعادلة التى تعتبر أحد أعقد أزمات الشرق الأوسط فى ظل رغبة تركيا فى استئصال الوجود الكردي ليس من المنطقة فحسب بل ربما من كوكب الأرض والكواكب المجاورة أيضا. ويقود حزب العمال الكردستاني ما يمكن وصفه بحركة المقاومة الكردية فى مواجهة الرغبة التركية فى انهاء الوجود الكردي أو على الأقل إخضاع الكرد وحرمانهم من أى حقوق أو امتيازات يمكن أن يطالبوا بها سواء داخل تركيا أو فى أى دولة أخرى على كوكب الأرض.
وفى سبيل إخضاع الكرد والقضاء على حركة المقاومة الكردية المتمثلة فى حزب العمال، شنت تركيا الكثير من العمليات العسكرية والحروب ضد الحزب منذ تأسيسه فى أواخر السبعينات من القرن الماضي، سقط خلالها الكثير من قيادات الحزب العسكرية فضلا عن إعتقال قائد ومؤسس الحزب الفيلسوف عبد الله اوجلان الذى يقبع فى سجن انفرادي بجزيرة إيمرالي التركية منذ اكثر من 22 عاما. كما لجأت تركيا للحروب النفسية وعملية التشويه ضد الحزب وقياداته، فهم الكفار الملاحدة تارة، الشيعة العلويون تارة أخري، عملاء إيران وأمريكا، إلى أخر ذلك من الإتهامات التى لا تتوقف عن تصديرها أنقرة وحلفائها بحق الحزب وقياداته.
لفت إنتباهي مقالاً نشر عبر مركز خبراء “رياليست” الروسي لأحد كبار خبراء الأمن الروس يتحدث فيه عن علاقة حزب العمال الكردستاني والدولة التركية. وأعتبر كاتب المقال وهو دكتور فى التاريخ أن حزب العمال الكردستاني هو أداة مطيعة للمخابرات التركية بحسب عنوان المقال! وهو أمر ربما أستغربه فى ظل الصراع القائم بين الطرفين منذ أواخر القرن الماضي وحتى يومنا هذا .
بالتأكيد لست فى محل الدفاع عن حزب العمال الكردستاني، فلست قياديا به أو منتميا له، ولا تجمعني بأى من قيادته او أعضائه أى صلة ولكني سأتحدث كمهتم ومتابع للحزب باعتباره أحد أكثر الأحزاب تأثيراً ليس فى المشهد الكردي فحسب بل المشهد التركي أيضا. في الحقيقة كنت مذهولاً وأنا أقرأ المعطيات التى بني البروفسيور الروسي رؤيته عليها، لا أعلم من أين أتي بوصفه لـ حزب العمال بـ الورقة المعادية للأكراد ليس فقط في تركيا نفسها، ولكن أيضًا في سوريا والعراق المجاورتين !
ربما ما لا يعلمه الخبير الروسي أن حزب العمال هو أحد أكبر الأحزاب الكردية، ويحظي بشعبية كبيرة جداً فى مناطق كردستان الأربعة، ويمثل الحزب تياراً وأيدلوجية مختلفة، وله أتباع ومؤيدون فى سوريا والعراق وتركيا وإيران، ولا ينافس الحزب فى شعبيته سوي الحزب الديمقراطي الكردستاني عميد الأحزاب الكردية الذى يسيطر على مقاليد السلطة بكردستان العراق.
معلومة أخرى قالها الخبير الروسي لا أعلم عن قصد أو دون ذلك حيث يجزم فى بداية مقاله ” كما تعلمون، تم إنشاء هذه المجموعة في البداية من قبل الخدمات الخاصة الأجنبية للقيام بأنشطة تخريبية في جمهورية تركيا”!
لا أعلم مصدر هذه المعلومة التى يتحدث عنها الخبير الروسي باعتبارها حق مطلق، ولكن ما أعلمه منه ككاتب مهتم بالشؤون الكردية أن حزب العمال الكردستاني ولد نتيجة حراك طلابي وأسسه طلاب أكراد، بينهم عبد الله أوجلان الذي اختير كأول رئيس للحزب، وأن الحزب قدم أكثر من مبادرة سلام لوقف القتال مع الدولة التركية، دوما ما كانت الحكومة التركية هى من تنتهكه وتستأنف الصراع مرة أخري.
يتحدث الكاتب عما وصفه بـ تخلى قادة حزب العمال الكردستاني عن شعار النضال من أجل استقلال أو حكم ذاتي للأكراد واستبدله بإنشاء اتحاد كونفدرالي لشعوب الشرق الأوسط، معتبرا أن ذلك يتماشى مع وجهات النظر العثمانية الجديدة للدوائر الإمبراطورية التركية بحسب وصفه، وهو أمر أعتقد أنه يفتقد للصواب خاصة أن فكرة ونظرية الأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب التى يتبناها الحزب جاءت نتاج تطور فكري لقائد الحزب ومؤسسه عبد الله أوجلان داخل السجون التركية، ولا يمكن ربطها مطلقا بفكرة العثمانية الجديدة التى يتبناها النظام التركي خاصة ان الدولة التركية تدخل فى حالة عداء كامل وشامل ضد نظام الإدارة الذاتية بشمال سوريا الذى يتبني نظرية أخوة الشعوب ويسعي نظام أردوغان لإسقاط الإدارة سواء عن طريق المؤامرات أو الحروب المباشرة حيث شنت تركيا ثلاث عمليات عسكرية استهدفت شمال سوريا خلال السنوات الأخيرة.
يتحدث الكاتب عن استغلال تركيا للحزب كورقة مصنفة كتنظيم إرهابي فى سبيل مواجهة الأكرد والقيام بعمليات ضدهم فى سوريا والعراق، ربما لا يعلم الباحث الكبير أن تركيا لا تحتاج لـ مبرر للهجوم وقتل الكرد وإن أنقرة قد شنت هجوما على حلفائها الكرد بشمال العراق وأغلقت الحدود معهم وحولت إقليم كردستان لسجن كبير رغم العلاقة الجيدة التى تجمع بين أربيل وأنقرة دون ان يكون لحزب العمال علاقة بالأمر بل لمجرد أن إقليم كردستان اعلن عن تنظيم إستفتاء لمناقشة فكرة الدولة الكردية فقط مجرد إستفتاء دون ان يتبعه إجراءات أخري فى سبيل تحقيق الإستقلال فما كان من تركيا إلا أن عاقبت جميع سكان الإقليم بالسجن والتعطيش والتجويع دون أن يكون لـ للعمال علاقة بالأمر.
ربما لا يدرك الباحث الكبير أن العداء التركي لفكرة الوجود الكردي يتجاوز صراع العمال مع أنقرة بكثير فما هذا سوى صراعاً شكلياً ولكن الحقيقة أن تركيا تعادى العرق الكردي بشكل عام وليس العمال بشكل خاص، وان أى تقارب تركي كردي محكوم عليه بالفناء طال الزمن أو قصُر، فمن المعلوم أن الكردي الجيد من وجهة نظر تركيا هو الكردي الميت.
يعتبر الخبير الروسي أن حزب العمال الكردستاني هو السبب فى كل نكسة كردية، فبحسب كلامه هو السبب فى اعتقالات النواب ورؤساء البلديات الأكرد بتركيا، كما أنه وراء الهجوم التركي على روج آفا والقصف المستمر على شمال كردستان العراق، وربما تكون بالفعل هذه المبررات منطقية من وجهة نظر تركيا فهذه بالفعل وجهة النظر التركية الرسمية، وهذه بالتأكيد تفتقد المنطقية بل والنزاهة بحكم اعتبارها صادرة من أحد طرفي النزاع.
أعتقد أن اتهام حزب العمال بالوقوف وراء كل أزمات الكرد تشبه إلى حد كبير فكرة سد الذرائع التى كان المجتمع الدولي يتحدث عنها مع تصاعد الانتفاضة الفلسطينية ضد الإحتلال الإسرائيلي فى مطلع الألفية، ففي الوقت الذى لم تكن إسرائيل تتوقف عن قتل وتدمير وتهجير الشعب الفلسطيني كانت الانتقادات توجه للمقاومين بدعوى استفزاز تل أبيب، وكانت تيارات فلسطينية تطالب المقاومة بوقف القتال بدعوى سد الذرائع !
كما إن اتهام حزب العمال بالوقوف وراء الهجمات التركية بسوريا والعراق يشبه فكرة إلقاء اللوم على الفتاة المغتصبة وتجاهل المجرم المغتصب بدعوى أنها استفزت المغتصب وارتدت ملابس ملونة!
ختاماً .. يبقي القول الذى لا يحتمل الشك أو التأويل أن رغبة أنقرة فى استئصال الكرد والقضاء على وجودهم ربما تكون رغبة عابرة للأنظمة والساسة الترك فى ظل إصرار تركي على معركة صفرية مع الكرد الذين يمثلون أكثر من 25% من تعداد الشعب التركي، ربما على تركيا أن تدرك أن فكرة النجاح فى وأد الأكرد أو القضاء على حركة المقاومة الكردية أشبه بالمستحيلات، فحتى لو نجحت أنقرة فى القضاء على حزب العمال أو حتى تطويعه لصالحها فمن المؤكد أنه سيخرج من داخل الشعب الكردي أجيال تقاوم وتناهض السياسة التركية وحتما ستنتصر لان فكرة الحياة تنتصر دوما على سياسة القتل والموت.
محسن عوض الله- باحث في الشئون الكردية، خاص “رياليست”