تناول الدبلوماسي السوفيتي المعروف أوليج جرينيوفسكي في مذكراته فصلا عن الوجود السياسي – الاستخباراتي الروسي في فلسطين. ورصد الدبلوماسي أهم الأطوار التي مر بها هذا الوجود حتى بعد ظهور دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية. فبدأه بالعبارة التاريخية لستالين “لن يكون هناك سلام بعد الآن”.
ويؤكد الدبلوماسي الروسي على أنه عندما صوت المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1948 بالموافقة على إقامة الدولة اليهودية، كان ستالين لحظتها يجوب الغرفة في صمت وهو يدخن غليونه، وفجأة قال جملته الشهيرة. واتضح أنه من الصعب أن يختلف أحد مع نبوءة ستالين. إلا أنه من الضروري أن نرصد هنا أن موسكو كانت قد وضعت يدها أيضا في المواجهات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ زمن بعيد.
في ديسمبر 1923 ظهر في فلسطين عميل دائرة الاستخبارات الخارجية السوفيتية ياكوف بليومكين الذي أصبح فيما بعد المعلم الرئيسي للمقاتلين اليهود المحليين. فبليومكين عضو حزب الاشتراكيين الثوريين سابقا، والذي نال الرضا على اغتياله سفير ألمانيا في روسيا السوفيتية ميرباخ، حصل على العفو عام 1919، وبعدها تم تكليفه برئاسة قسم مكافحة التجسس. وفي وقت لاحق اتخذ ياكوف جريجوريفيتش مؤقتا وظيفة في سكرتارية ليف تروتسكي كغطاء لنشاطاته. وبعد أن أنهى دورة تدريبية للدبلوماسيين الشبان تم إرساله للعمل في فلسطين حيث كانت الاستخبارات السوفيتية قد أقامت شبكات للعملاء المحليين هناك. وبالطبع تم إرسال ياكوف إلى فلسطين بعد خبرة طويلة في العمل القتالي والتجسسي وحرب العصابات في مؤخرة الجيش الأبيض المعادي آنذاك للثورة البلشفية.
منذ ذلك الحين بدأ مستقبل عميل الاستخبارات الخارجية السوفيتية ياكوف بليومكين الذي شرع في جمع المعلومات عن أوضاع المستعمرات البريطانية في الشرق الأوسط، والمواقع المحلية الأخرى الواقعة تحت الوصاية. ومن أجل التمويه وإبعاد الأنظار عن نشاطاته استخدم هوية مزورة لرجل دين يهودي باسم جورفينكيل، ثم افتتح لنفسه مغسلة. ومن خلال علاقاته الواسعة حاول اجتذاب اليهود إلى جانب الثورة الاشتراكية بإشاعة فكرة الإعداد لانتفاضة ضد الإنجليز.
في نفس تلك الفترة في فلسطين كان هناك أيضا أحد أهم الخبراء في مجال التجسس وحرب العصابات، ذلك الشخص الموهوب ياكوف سيربريانسكي (ولقبه الأصلي لافريتسكي)، والذي كان يعمل أيضا في صفوف حزب الاشتراكيين الثوريين، وأصبح فيما بعد مساعدا لياكوف بليومكين في فلسطين. وكان من المفترض أن يقوم سيربريانسكي بدراسة الحركات الثورية والقومية وهو ما نجح فيه بدرجة عالية أهلته بعد ذلك لشغل مكان بليومكين بعد عودة الأخير إلى موسكو.
في البداية قام المركز في موسكو بتكليف سيربريانسكي بإقامة شبكة عملاء حلزونية واسعة ومتغلغلة في مختلف الدوائر بشكل عام، ثم زرع عناصر منها في المنظمات العسكرية اليهودية. وخلال عام واحد تمكن سيربريانسكي من تجنيد مجموعة كبيرة من المهاجرين سواء من بين الجماعات اليهودية التي بعثت من الخارج إلى فلسطين، أو من بين الروس الذين كانوا يحاربون في صفوف الجيش الأبيض وهربوا فيما بعد إلى فلسطين. والقليلون يعرفون أنه في عام 1924 في فلسطين بدأ هناك بالذات مستقبل “القائد الكبير” لشبكة العملاء الأوروبية التابعة للاستخبارات السوفيتية ليوبولد تربير. وكان ليوبولد، ابن التاجر اليهودي الفقير، في شبابه صهيونيا ومقاتلا شيوعيا عنيد. ومن أهم أفكاره التي كان يحب تكرارها دائما: “أنا شيوعي، لأنني يهودي”.
من جانب آخر كان دخول المناطق الغربية في أوكرانيا وبلاروسيا، وكذلك دول البلطيق في نطاق الاتحاد السوفيتي عاملا هاما في تحويل نشاطات العديد من المنظمات الصهيونية العاملة على أراضي تلك الدول من العمل العلني إلى العمل السرى. وظلت المهمة الأساسية لتلك المنظمات كما كانت عليه في السابق: تجنيد العناصر، وجمع الأموال من أجل إرسال الجماعات اليهودية إلى فلسطين.
وبالطبع كانت الاستخبارات السوفيتية تراقب عن كثب علاقات عدد من المنظمات اليهودية مع أجهزة الاستخبارات الأجنبية. وقد ورد ذلك بشكل تفصيلي في أحد تقارير الإدارة رقم 3 في المفوضية الشعبية لأمن الدولة (جهاز الاستخبارات السوفيتية “كى.جى.بى” فيما بعد) بتاريخ 15 يونيو 1941 تحت عنوان “حول وضع العمل في إعداد المنظمات القومية اليهودية العاملة تحت الأرض”. وفي غضون ذلك كانت السلطة السوفيتية تقوم بتوجيه ضربات محسوبة للمنظمات القومية اليهودية مستثنية منها المجموعات التي تم الاعتراف بها، من وجهة نظر السياسة السوفيتية آنذاك، على أنها مجدية ويمكن استخدامها في المستقبل. وعلى هذه القاعدة بالذات أسست السلطة السوفيتية علاقتها مع اللجنة الاجتماعية اليهودية لمكافحة الفاشية كعنصر للسياسة الستالينية المناهضة للفاشية.
إن المعلومات الخاصة بمشاركة الاتحاد السوفيتي في حل المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية وإقامة دولة يهودية هناك ظلت لفترة طويلة بعيدة عن يدى العلماء والباحثين. والسبب في ذلك لا يعود إلى أمور سياسية أو أيديولوجية بقدر ما يعود إلى أمور براجماتية متعلقة بمستوى ونوعية ودرجة النشاطات المرتبطة بأسرار الدولة. والأمر بساطة هو أنه قبيل إقامة دولة إسرائيل عام 1948 كانت جميع اتصالات القادة السوفييت مع قادة المنظمة الصهيونية والمنظمات اليهودية الأخرى بشأن مستقبل فلسطين تجري عبر القنوات الدبلوماسية السرية ومن خلال أجهزة الاستخبارات السرية أيضا.
في نهاية عام 1938 وبداية 1939، ولأسباب عديدة، حاولت أجهزة الاستخبارات البريطانية تشكيل معارضة قوية ضد القائد القادم لإسرائيل حاييم وايزمان. وعلى هذا الأساس تم وضع عدة خطط لعمل انشقاق داخل صفوف المنظمات الصهيونية، وخاصة بين المجموعات المتعادية. وتم إسناد المهمة إلى هاي بيرجيس أحد أعضاء ما يسمى بـ “خماسي كمبردج”.
كما تم أيضا تكليف بيرجيس بتجنيد زميله فيكتور روتشيلد الذي كان يمتلك مجموعة من العلاقات القوية والمؤثرة في مختلف الدوائر. المثير أن المفوضية الشعبية لأمن الدولة لم تعترض على تنفيذ بيرجيس لهذه المهمة. وقد استطاع فعليا إقناع روتشيلد بأن الحركة الصهيونية ليست في حالة تسمح لها الآن بالعمل الفعال، إضافة إلى أن رئيسها وايزمان قد سقط وخرج عن الخط المتفق عليه. وأقنعه أيضا بأن الصهيوني الحقيقي لا يجب أن يثق بوايزمان بعد ذلك. ووفقا للخطة الموضوعة قام فيكتور روتشيلد بعرض الأمر على اللورد روتشيلد. وفي نهاية الأمر أصبح وايزمان في عزلة حقيقية بعد التشهير به ونزع الثقة عنه، وهو ما كشف عن أن روتشيلد نجح فعليا في مهمته وأسس لمعارضة شديدة ضد الحركة الصهيونية، ولكن هذه المعارضة لم تستمر لفترة طويلة.
بعد انتهائه من مهمته الرائعة كتب بيرجيس في أحد تقاريره للاستخبارات السوفيتية: “نعم، لقد قمتُ بتجنيد روتشيلد وتنشيطه..”. مثل هذا الكلام لم يكن جديدا في علاقته بنشاطات الاستخبارات السوفيتية في فلسطين وإقامة الدولة الإسرائيلية، وإنما تكمن أهميته في أنه أكد توقعات الخبراء والمختصين، خاصة وأنه يثبت بشكل أو بآخر أهمية هذه القضية بالنسبة للاتحاد السوفيتي لدرجة أن استخباراته الخارجية وظفت مجموعة كمبردج في لندن للاشتغال بهذا الأمر على الرغم من أن تلك الفترة كانت حرجة للغاية إذ أن الاستخبارات السوفيتية كانت منشغلة تماما بموضوع التجسس النووي وأسرار القنبلة النووية. ولكن ذلك لم يجعلها تتراجع عن العمل الجاد بهذه القضية.
بعد ذلك تأكد المختصون من أن الاستخبارات السوفيتية ليست بعيدة إطلاقا عن ما حدث لوايزمان، وأن جميع تحركات بيرجيس كانت تحت الرقابة الكاملة وبتنسيق كامل مع عملاء وموظفي المفوضية الشعبية لأمن الدولة في لندن. بل ويمكن التأكيد على أن بيرجيس استطاع فعلا تجنيد فيكتور روتشيلد كمصدر استخباراتي للمفوضية الشعبية، وبذلك يكون قد انضم إلى “خماسي كمبردج” ليصبح بعد ذلك “سداسي كمبردج”.
مرت عشرات السنين، وظهرت دولة إسرائيل، ونشبت حربان بينها وبين العرب، ثم بدأت منظمة التحرير الفلسطينية في استجماع قواها للرد على طرد وتهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم التي وفقا لقرارات الأمم المتحدة كان من الضروري أن تشكل دولة فلسطينية.
في البداية نظرت الاستخبارات السوفيتية إلى الفدائيين الفلسطينيين بعين الشك كمهووسين خطرين، وفئات متناحرة لا يمكن الوثوق بها أو توقع ردود أفعالها. وفقط في نهاية عام 1960 أدركت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي أنه من الممكن أن يكون الإرهاب مفيدا في الخط الذي اعتمدته لضرب الاستقرار في الغرب.
بعد ذلك بدأت الاستخبارات السوفيتية في بذل الجهود المكثفة لزرع العناصر في المنظمات الفلسطينية، وتمرير مواقف معينة من أجل استخدامها فيما بعد ضد القادة العرب الذين حاولوا تطبيق سياسات مستقلة عن الاتحاد السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط. وفي الحقيقة، فمنظمة التحرير الفلسطينية ظلت لفترة طويلة غير معترف بها في الاتحاد السوفيتي. وكانت أول زيارة لياسر علرفات إلى موسكو في عام 1968، وتمت على مستوى اللجنة السوفيتية للتضامن مع شعوب بلدان آسيا وأفريقيا.
أما ياسر عرفات الذي تمكن من الحصول على رضا الكرملين ومباركته، فقد تم انتخابه رئيسا للمنظمة في 3 فبراير عام 1969. وفي الواقع لم تكن موسكو إلى ذلك الحين قد حددت موقفها بشأن مساعدة أو إعاقة التكتيكات الإرهابية في حل مشكلة الدولة الفلسطينية.
من ناحية أخرى وجهت موسكو عناية فائقة لتجنيد الطلاب الفلسطينيين الذين كانوا يدرسون في الجامعات الغربية، والذين كانوا يعودون فيما بعد إلى الشرق الأوسط للعمل تحت غطاء منظمة التحرير. وفي مثل تلك الحالات كان الضباط السوفييت الذين كانوا يعملون على تدريب عناصر المنظمة يحاولون من جانبهم أيضا تجنيد هذه العناصر للتعاون معها.
وفي عام 1970 أصبح مقر المنظمة في شمال تونس حيث كان يتواجد وقتها هناك ياسر عرفات. وهناك بالذات بدأت الاتصالات بين المنظمة والاستخبارات السوفيتية. وفي نفس الوقت ظلت المنظمة على اتصال بالاستخبارات الأمريكية عن طريق مصر والسعودية.
في هذا السياق لا يمكن أن ننسى الاتصالات بين منظمة التحرير الفلسطينية وأجهزة استخبارات ألمانيا الشرقية، والتي كانت بدايتها في 17 يناير 1981 في برلين الشرقية حيث التقى ياسر عرفات مع إريك هونيكر الذي منح الفلسطينيين كمية هائلة من الأسلحة، إضافة إلى 50 خبيرا ألمانيا لتدريب المقاتلين الفلسطينيين في لبنان.
لقد كان الاتحاد السوفيتي هو “العازف” الأول لسيمفونية العلاقات مع الفلسطينيين، وهو ما كشف عنه موظف الاستخبارات السوفيتية أوليج أجرانيانتس الذي كان يعمل تحت غطاء قنصل الاتحاد السوفيتي في تونس، وتمكنت الاستخبارات الأمريكية من تجنيده عام 1980. إن أجرنيانتس بالذات هو الذي أفشى للاستخبارات الأمريكية جميع المعلومات والتفاصيل الخاصة بالاتصالات بين الاستخبارات السوفيتية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
د. أشرف الصباغ- “رياليست” الروسية