القاهرة – (رياليست عربي): المتتبع للشأن الإيراني منذ اندلاع الثورة عام 1979 وتأسيس الجمهورية الإسلامية، يدرك جيدًا أن النظام الإيراني لم يدخل في مواجهة عسكرية مباشرة مع أي طرف ناصبه العداء؛ نستثني من ذلك الحرب الإيرانية – العراقية الممتدة 8 سنوات من عام 1980 حتى عام 1988 بلا جدوى سوى سقوط آلاف الضحايا الأبرياء من الجانبين ما بين قتلى وجرحى.
هذه الحرب لها زمن زاخم بالأحداث وظروف معقدة وأسباب خفية، فقد نشبت عقب الثورة الإيرانية مباشرة، وكان الثوار وقتها لا تزال تصدح في آذانهم عبارات “الخُميني” الرنَّانة عن إقامة دولة إسلامية، يحكمها فقيه، عالم، عادل، له ما كان للرسول من سُلطات وصلاحيات، يحارب أعداء الإسلام والمسلمين الممثلين في أمريكا وإسرائيل بصفة خاصة، والغرب بصفة عامة، أو كما كان يهوى الخُميني تسميتهم “قوى الاستكبار”، وهو مسمى توارثه المرشد الحالي “عليّ خامنئي” والقادة الإيرانيون منذ ذلك الوقت، يرددونه حينما يريدون استمالة الشعب إلى صفهم.
كما أن هذه الحرب تمت بدفع من الولايات المتحدة وبدعم من دول خليجية، كانت تريد إجهاض النظام الوليد في إيران، وضعضعة نظام “صدام حُسين” في العراق آنذاك، عن طريق استنزاف قوى الدولتين وإنهاكهما في حرب غير مجدية، لما يمثلاه من خطر على مصالح الدول الكُبرى وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط، فكل من الخُميني والحُسين كان يريد بسط سيطرة على الخليج بأكمله.
لقد تعلمت إيران درسًا مهمًا من هذه الحرب، وأيقنت أنها لن تتمكن من الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة مع دول المنطقة خاصة المدعومة من الغرب كإسرائيل “ابنة أمريكا المدللة”، لذا شرعت في حرب من نوع آخر لا تخوضها بوجهٍ سافرٍ، بل من وراء الستار كالمُخايل في مسرح العرائس، يتحكم في حركة الدُمى بيديه كيفما يشاء، ومتي يريد في فصول “حرب الوكالة”.
عملت إيران بعد انتهاء الحرب مع العراق على خلق “أذرع عسكرية” في منطقة الشرق الأوسط، تقدم لها الدعم المالي والعسكري والتكنولوجي دون الظهور علنًا على ساحة الصراع، فبات حزب الله اللبناني، وحزب أنصار الله اليمني (الحوثيون)، وقوات الحشد الشعبي في سوريا والعراق، وميليشيات شيعية أخرى “قوة ردع إيرانية” تقض مضاجع الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي الوقت نفسه تُنمِي النفوذ “الشيعي” في المنطقة. على هذا النحو أضحت هذه الأذرع تنفذ أجندات خارجية “إيرانية” لكنها ممهورة بمهر وطني!!
إيران دولة مثل باقي الدول تعقد صفقات ومواءمات وائتلافات مع دول أخرى؛ بعضها صديق والبعض الآخر عدو، وفي السياسة لا تدوم صداقة ولا يدوم عداء، لكن هناك مصالح مشتركة وأحداث راهنة تحتم على كل دولة إعادة صياغة سياساتها الخارجية.
إيران 2024 هي نفسها إيران 1979 التي أبرمت مع الولايات المتحدة صفقة “إيران – كونترا” عام 1985 لشراء أسلحة تحارب بها العراق.. هي نفسها إيران التي قصفت السفارة الأمريكية وقاعدة عين الأسد “الخاليتين” في العراق خلال عامي 2019 و2020.. هي نفسها إيران التي تنصل مرشدها “عليّ خامنئي” في نوفمبر 2023 من تصريحات إغراق إسرائيل في البحر، ومحوها من على وجه الأرض.. هي نفسها إيران التي أبلغت الولايات المتحدة بتوجيه ضربة جوية لإسرائيل في إبريل 2024 قبل القيام بها.. هي نفسها إيران التي قال رئيسها “مسعود بزشکیان” مؤخرًا عبر تسجيل صوتي مسرب له مع جمع من ممثلي الوكالات الإعلامية الأمريكية: “إن الجمهورية الإسلامية مستعدة أن تُنحِي أسلحتها جانبًا إذا أقدمت إسرائيل على هذا الأمر”.
إن حركة حماس الفلسطينية دخلت الحرب مع إسرائيل ظنًا منها أن “محور المقاومة” سيشن هجمات متزامنة على إسرائيل من كل صوب؛ من سوريا والعراق ولبنان وقبل كل هؤلاء رأس حربة المحور “إيران”، مما كان سيغير معادلة الحرب الجارية من النقيض إلى النقيض في ظل وقوع إسرائيل بين المِطرقة والسَّندان، ودخولها في “حرب عصابات” متعددة الجبهات، لن تستطيع الصمود فيها على المدى البعيد كما يحدث الآن، لكن الواقع بدا عكس ذلك تدريجيًا، وأصبحت حماس تحارب منفردة أمام كيان يحظى بدعم غير مبسوق من العالم الغربي المتحكم في قواعد اللعبة على الأصعدة كافة.
الأمر نفسه نراه في أوكرانيا التي انزلقت في مستنقع حرب مع روسيا لن تستطيع الخروج منه بسهولة، بعد شحنها بـ “وعود عُرقوبية” من الولايات المتحدة وأوروبا بالدخول معها في الحرب.
إيران دولة تعي حجم المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تموج بها وتجعلها تتقلقل فوق بركان ثائر، وتعلم أن الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل لا يُحمد عُقباها قد تسفر عن تداعي النظام القائم، لذا يُخطِئ مَن يظن أن إيران ستحارب إسرائيل ردًا على مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “إسماعيل هنية”، أو مقتل الأمين العام لحزب الله اللبناني “حسن نصر الله”، ويُخطِئ من يظن أن إيران دولة ساذجة يسهل جرها إلى حرب سرمدية مثلما جُرت أوكرانيا، ويُخطئ مَن يظن أن إيران لم تتعلم الدرس من حربها مع العراق، فإيران لن تدخل حربًا تتحول فيها إلى “وكيلة” عن أطراف أخرى تريد الزج بها في بوتقة مستعرة.
إذا كانت إيران تريد محاربة إسرائيل، كانت ستحاربها ردًا على اغتيال الأب الروحي للبرنامج النووي “محسن فخري زاده” عام 2020، أو على الهجمات السيبرانية على المنشآت النووية، أو على استهداف قادة الحرس الثوري رفيعة المستوى داخل البلاد وخارجها بصفة متكررة، وليس ردًا على اغتيال قيادات أجنبية موالية لإيران.
الحرب لها فنون كثيرة، وإيران تجيد منها “فن الرد المسرحي” الذي يعتمد على الصوت العالي، والخُطب الوطنية “الطنانة”، والتشدق بأقوال خاوية من الأفعال، وشحن الآخرين من أجل الدفع بهم نيابة عنها.
ستكتفي إيران بتصريحات عنترية مثلما فعلت عقب اغتيال إسماعيل هنية.. ستكتفي إيران بعمليات نوعية متفق عليها، تنفذها الميليشيات التابعة لها في المنطقة.. أما المواجهة العسكرية فلن تهرع إليها إيران إلا أن أصبحت خيارًا لا مفر منه، وأعتقدُ أنه خيار لن يسمح به الكثيرون شرقًا وغربًا.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر