القاهرة – (رياليست عربي): أعاد المسلسل التاريخي “الوطن الأم (سرزمين مادرى)” حادثة “المدرسة الفيضية”، إحدى أهم مدارس الحوزة العلمية (علوم الفقه الشيعي) في مدينة قُم، إلى أذهان الجمهور الإيراني بعد مرور 60 عامًا على وقوعها؛ وهي الحادثة التي شهدت اصطدام القوات الإيرانية العنيف مع معارضي برنامج إصلاحات الشاه “محمد رضا بهلوي” الاقتصادية والاجتماعية المعروف باسم “الثورة البيضاء (انقلاب سفید)” عام 1963.
ووفقًا لما جاء في أحداث المسلسل، قوبل المشهد الذي يظهر فيها رجال الأمن الإيراني وهم يلقون بطلاب العلوم الدينية من أعلى سطح “المدرسة الفيضية”، بترحاب واسع من قبل عدد كبير من رواد وسائل التواصل الاجتماعي؛ باعتباره يمثل حالة من التنفيس عما يشهده الشعب الإيراني من قمع وجور تحت وطأة الحكم الثيوقراطي. كما أشار عدد الآخر من رواد هذه الوسائل إلى أحداث الواقعة التاريخية “الحقيقية”، واعتبروا ما يقدمه المسلسل تزييفًا للتاريخ.
هذه ليست المرة الأولى التي يعرض فيها مسلسل إيراني يسلط الضوء على حِقبة ما قبل الثورة أي ما قبل عام 1979، “رواية خيالية” أو “رؤية درامية” تتنافى مع التاريخ؛ الحقيبة الإنجليزية “کیف انگلیسی”، والقبعة البهلوية “كلاه پهلوی” للمخرج “ضياء الدين دَري”، والأب الروحي “پدرخوانده”، ولغز الملك “معماى شاه” للمخرج “محمد رضا ورزي”، ويوسف النبي “يوسف پیامبر” للمخرج “فرج الله سلحشور”، وسيرة المختار الثقفي “مختارنامه” للمخرج “داوود مير باقري، كلها مسلسلات تروي أحداث تاريخية ودينية وسياسية واجهت انتقادات عديدة من النقاد والمؤرخين داخل إيران وخارجها.
عملية تحريف التاريخ أو حذف أحداث منه من قبل الأفلام والمسلسلات الإيرانية لا تقتصر على فترة ما قبل الثورة فحسب، بل تمتد إلى فترة ما بعدها أيضًا، فمنذ عدة سنوات لم يعرض التليفزيون الإيراني أية صور أو مقاطع مصورة لأحداث مُهمة في التاريخ الإيراني المعاصر مثل لحظة ترجل قائد الثورة “الخُميني” عن طائرته، قادمًا من منفاه في بلدة “نوفل لو شاتو” Neauphle-le-Château الواقعة بالقرب من باريس والتفاف رفاقه حوله، عقب الإطاحة بالشاه ونجاح الثورة. أو عندما يُطرح موضوع الحرب الإيرانية العراقية (1980: 1988) للمناقشة أو يحل ذكراها، يُسقط دور أشخاص مثل “عليّ أكبر هاشمي رفسنجاني” نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة آنذاك، ويُغفل الحديث عنهم عمدًا.
وخلال السنوات الأخيرة، طالت عملية التحريف والحذف شخص “الخُميني” نفسه، وأحيانًا انتقد مسؤولو مؤسسة “تنظيم ونشر تراث الإمام الخُميني” وأقاربه برامج إذاعية وتليفزيونية تناولت شخصية قائد الثورة وسياساته بالبحث والتحليل مثلما حدث في فبراير 2010، فقد انتقد حفيد الخُميني “حسن الخُميني” في رسالة إلى رئيس هيئة الإذاعة والتليفزيون آنذاك “عزت الله ضرغامي”، برنامجًا تليفزيونيًا يُدعى “المؤشر (شاخص)” كان يُذاع أثناء ذكرى الثورة، واعتبره يُسيئ إلى شخصية الإمام الخُميني “الشاملة والعالمة والكاملة والقيادية والقوية والعطوف”، ويصوَّرها بشكل غير صحيح، حيث قال: “إن الشباب الإيراني المعاصر لن يتعرف على شخصية الإمام (الخُميني) الحقيقية عن طريق ما يُذاع في هذا البرنامج، لكن سيتعرف على شخصية من صنيعة هيئة الإذاعة والتليفزيون تبتعد كل البعد عن حقيقة الأمام التي شكَّلت بأمر قيادة الثورة هوية الجمهورية الإسلامية بأكملها. إن ما يدعو إلى الأسف أن تسعوا إلى تضخيم الأخطاء وتحريف الوقائع الماضية، وأن تخطئوا في محاكاة التاريخ دون الإشارة إلى الظروف المحيطة بتلك الفترة”.
الوطن الأم
مسلسل “الوطن الأم” من تأليف “علي رضا طالب زاده” وإخراج “كمال تبريزي”، وإنتاج “محمد مسعود”، وبطولة نخبة من النجوم الإيرانيين من بينهم: عليّ شادمان، شهاب حُسيني، آرش مجيدي، أمير آقايي، حسین محجوب، بیتا فرهي، فرشتة صدر عُرفایي، فرهاد قائمیان، هنگامة قاضیاني، محسن تنابنده، پژمان بازغي، آشا محرابي، نیکي کریمي، محمد رضا فروتن، جواد عزتي، حسن پور الشیرازی، سعید نیك پور، شبنم قُلي خاني، جعفر دهقان، مهرداد ضیایي، لیلا زارع، وغيرهم.
يروي المسلسل في إطار اجتماعي حِقبة مُهمة من التاريخ الايراني قبل الثورة بدءًا من عام 1941 حتى اندلاع الثورة عام 1979؛ وهي فترة شهدت أحداثًا سياسيةً جسامًا تمخضت عنها الثورة؛ كان من أبرزها: الغزو الأنجلو – سوفيتي لإيران، وتنازل الشاه “رضا بهلوي” عن العرش لابنه “محمد رضا” بضغط من قوتي الاحتلال عام 1941 إبان الحرب العالمية الثانية (1939: 1945).. تنامي التيار الشيوعي في إيران خاصة بين الأقليات غير الفارسية، وما تبعه من تأسيس عدد من الأحزاب اليسارية وانفصال إقليمي أذربيجان وكُردستان الإيرانيين عن البلاد عام 1945 بدعم من الاتحاد السوفيتي.. تأميم صناعة النفط الإيراني على يد رئيس الوزراء الليبرالي ذي التوجهات القومية “محمد مصدق” عام 1951، وما ترتب عليه من نتائج تمثلت في فرار الشاه “محمد بهلوي” من إيران، ثم عودته إلى البلاد مرة أخرى بعد الإطاحة بمصدق على يد المخابرات البريطانية والأمريكية فيما يعرف في إيران باسم “انقلاب 28 مُرداد 1332ش/ 19 أغسطس 1953م”، وفي بريطانيا باسم “عملية التمهيد” Operation Boot، وفي الولايات المتحدة باسم “عملية التطهير أو أجاكس” Operation Ajax.. تدشين برنامج إصلاحات الشاه الموسوم باسم “الثورة البيضاء” عام 1963، وما تبعه من أحداث أبرزها حادثة “المدرسة الفيضية”.
على مدار ثلاثة مواسم ينسج “الوطن الأم” أحداثه الدرامية في سياق حياة “رَهي أَردکاني” منذ الطفولة حتى مرحلة النضج والرجولة، ويلعب دوره على التوالي: علي شادمان (مرحلة الطفولة)، وشهاب حُسيني (مرحلة الشباب)، وآرش مجيدي (مرحلة النضج والرجولة).
الموسم الأول من المسلسل شرع تصويره في نوفمبر 2008، وانتهت عملية التصوير في مايو 2010، وهو يروي الحدث الإيراني منذ عام 1941 حتى عام 1953 بما في ذلك وضع الدولة الإيرانية إبان الحرب العالمية الثانية، وتأميم صناعة النفط، وانقلاب 28 مُرداد.
والموسم الثاني بدأ تصويره في ديسمبر 2010، وانتهت عملية التصوير في يناير 2014. وهو يروي الحدث الإيراني منذ عام 1960 حتى عام 1966؛ بما في ذلك “الثورة البيضاء” وحادثة “المدرسة الفيضية”.
أما الموسم الثالث والأخير فقد بدأ تصويره في فبراير 2016، وانتهى التصوير في يونيو 2017. ويروي هذا الموسم الأحداث التي سبقت الثورة منذ عام 1975 حتى اندلاعها وتأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران على يد “الخُميني” في فبراير 1979.
عرض الوطن الأم (الوطن القديم) وأسباب توقفه
بدأ عرض “الوطن الأم” مساء الخميس في 23 يناير 2014 على شاشة “القناة الثالثة (شبكه سه سيما)” التابعة لهيئة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية، وكان يحمل في البداية اسم “الوطن القديم (سرزمين كُهن)”، لكن بعد أن عُرضت الحلقة الرابعة منه، رُفع المسلسل من العرض في 13 فبراير على خلفية الإساءة للبختياريين وتشويه تاريخهم، وأعلنت هيئة الإذاعة والتليفزيون في 15 من الشهر نفسه خلال بيان لها “أن بث المسلسل التليفزيوني (الوطن القديم) قد توقف حتى تُجرى تحقيقات حول ما وُرد به”.
وكانت العشائر البختيارية المتمركزة في محافظات لُرستان وخوزستان وچهار محال وبختیاري وإصفهان، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات البختيارية المؤثرة في المجتمع الإيراني قد انتابتها حالة من الغضب العارم بسبب مقطع من ديالوج في الحلقة الرابعة، وجهه العضو البارز بالحزب الديمقراطي الأذربيجاني “جواد أردكاني (أمير آقايي)” والد البطل (رهي) بالتبني إلى أسرة بختيارية قائلًا فيه: “بأي شيء تفتخرون؟، بأي حسب ونسب؟، بحمل الكلاب الإنجليزية حتى تقضي حاجتها ولعق حذاء القنصل البريطاني؟، أتريدون أن أقصُ غدًا على الأطفال في الفصل حكاية؛ كيف أصبح البختياريون بختياريين؟”. وكانت صورة القائد البختياري المشهور “عليّ قُلي خان” الشهير باسم “أسعد البختياري” تظهر في خلفية المشهد، وأردكاني يُشير إليها.
اعتبر عدد كبير من المشاهدين الديالوج المذكور كناية عن العلاقة الودية التي جمعت الإنجليز والبختياريين إبان الاحتلال الأنجلو – سوفيتي لإيران، وبالتالي اتهام البختياريين بخيانة وطنهم بسبب تعاونهم مع المحتل الأجنبي.
أثار حوار الممثل الإيراني “أمير آقايي” في المسلسل موجة كبيرة من الاحتجاجات بين البختياريين في مختلف المدن الإيرانية، كما استصدر 60 عضوًا في مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان الإيراني) من بينهم نواب المناطق البختيارية، قرارًا يطالبون فيه رئيس هيئة الإذاعة والتليفزيون “عزت الله ضرغامي” بمساءلة صُناع المسلسل ومحاسبتهم بشدة.
مع استمرار الاحتجاجات البختيارية، علقت هيئة الإذاعة والتليفزيون عرض المسلسل، وأعلنت أن استئناف عرضه منوط بإجراء تحقيقات حيال ما جاء فيه، كما أعلن مدير العلاقات العامة بالإذاعة والتليفزيون “محمد تقي سُهرابي” أن هيئة مشكَّلة من قبل السيد ضرغامي سوف تتوجه إلى المحافظات التي تشهد احتجاجات، وتتحدث مع المحتجين من المواطنين وأئمة المساجد والمسؤولين بشكل مباشر، وتعد تقريرًا بخصوص الانتقادات الموجهة إلى المسلسل.
في غضون ذلك، تقدم كل من مدير قسم الأفلام والمسلسلات بالقناة الثالثة “محمود رضا تخشيد”، ومنتج المسلسل “محمد مسعود”، والمخرج “كمال تبريزي”، والمراجع التاريخي للعمل “عباس سليمي نمين” خلال خطاب رسمي إلى نائب رئيس هيئة الاذاعة والتليفزيون “عليّ دارابي” باعتذار إلى العشائر البختيارية. كما ذكر المؤلف “علي رضا طالب زاده” وصُناع العمل أنهم لم يقصدوا إهانة العرق البختياري، وأن ورود اسم “العائلة البختيارية” في أحداث المسلسل جاء بمحض الصدفة، وليس له أية علاقة بالبختياريين.
بالاضافة إلى ذلك توجه رئيس هيئة الإذاعة والتليفزيون “عزت الله ضرغامي” إلى مدينة “مسجد سليمان” بمحافظة خوزستان بشكل مفاجئ دون رفقة وتشريفات مسبقة، وذهب إلى الجامع الكبير بالمدينة، وقدم اعتذرًا علنيًا إلى البختياريين. وفي النهاية أُقيل مدير قسم الأفلام والمسلسلات بالقناة الثالثة “محمود رضا تخشيد” من منصبه في 3 مارس 2014 جراء ما حدث.
اعتبر البختياريون أن المسلسل قد تجاهل دورهم في تشكيل التاريخ السياسي والاجتماعي خلال العصر الدستوري في إيران، وشكك فيه، كما قدم القائد “أسعد البختياري” على أنه عميل بريطاني بشكل واضح، وهذه إساءة سافرة في حق عرق أصيل.
ويعتبر القائد “أسعد البختياري” أحد رجالات السياسة البارزين في العصر القاجاري، ومن رؤساء العشائر البختيارية. عاصر 4 ملوك قاجاريين، وتولى منصبي وزير الداخلية ووزير الحربية في عهد الشاه “أحمد القاجاري” أخر الملوك القاجاريين، كما لعب دورًا مهمًا في إرساء النظام الدستوري في إيران. وبالإضافة إلى ذلك عاصر القائد أسعد أحداثًا فارقةً في التاريخ الإيراني؛ كان أبرزها اكتشاف النفط في جنوبي وجنوب غربي البلاد، ومنح الشاه “مظفر الدين القاجاري” حق التنقيب عن النفط إلى رجل الأعمال البريطاني “ويليام دارسي” William D’Arcy لمدة 60 سنة فيما يُعرف باسم “امتياز دارسي” The D’Arcy Concession؛ وهو الامتياز الذي أنزل البلاء على رأس الدولة الإيرانية فيما بعد.
عودة الوطن القديم باسم جديد
بعد الضجة التي أحدثها مسلسل “الوطن القديم” وسببت وقفه عن العرض، عُدل السيناريو والحوار، وأُعيد تصوير عدد من المشاهد، وظهر الإعلان التشويقي له يحمل اسمًا جديدًا؛ ألا وهو “الوطن الأم”. كان من المقرر أن يُعرض المسلسل بدءًا من 6 أكتوبر 2017، لكن هذا لم يحدث، وذكر المخرج “كمال تبريزي” أن السبب في ذلك يرجع إلى مشكلات تقنية وعدم الانتهاء من إعداد التتر، وتوقع أن يُعرض المسلسل اعتبارًا من 13 أكتوبر ، لكن هذا لم يحدث أيضًا.
في أوائل عام 2023 أي بعد ما يقرب من 10 سنوات على إنتاج “الوطن الأم”، أعلن مدير مركز “العروض السينمائية (سيما فيلم)” التابع لهيئة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية “مهدي نقويان” عن حل مشكلة هذا العمل وبدء عرضه في أسرع وقت. وفي النهاية شرع بث المسلسل على منصة “تلوبیون” Telewebion الإلكترونية التابعة لهيئة الإذاعة والتليفزيون اعتبارًا من 27 سبتمبر ، وعلى شاشة القناة الثالثة اعتبارًا من 12 أكتوبر.
كمال تبريزي يتبرأ من وطنه الأم
عقب عرض “الوطن الأم” بفترة وجيزة تبرأ منه مخرجه “کمال تبريزي” في رسالتين متتابعتين نشرهما في 28 ديسمبر 2023 و4 يناير 2024 عبر صفحته الشخصية على موقع تبادل الصور ومقاطع الفيديو “إنستجرام”، واعتبر فيهما المسلسل عملًا لقيطًا؛ لا رب له.
قال “تبريزي” في الرسالة الأولى:
مع الأسف؛ بعد الانتهاء من عرض الموسم الأول من مسلسل (الوطن الأم)، بدأ عرض الموسم الثاني على عجلٍ ودون علمي من قبل التليفزيون والمنتج بما يحوي من عيوب، كنتُ قد أشرتُ إليها منذ عدة أشهر، ولكن لم يُتخذ أي إجراء لإصلاح هذه العيوب، والآن يعتزمان القيام بإصلاحها في الوقت القصير المتبقي قدر الإمكان!
أذيعت الحلقتان الأولى والثانية من الموسم الثاني من المسلسل على المنصة الإلكترونية (تلوبيون) بالعديد من العيوب. استخدام المقطوعات الموسيقية للموسيقار “محمد رضا عليّ قُلي” مع المقطوعات الموسيقية للموسيقار “أحمد پژمان” دون ذكر اسم السيد “عليّ قُلي”، واحدة من المآخذ المُهمة المُشار إليها، حيث إن استخدام مزيج من المقطوعات الموسيقية المختلفة لملحنين مختلفين في عمل واحد أمر خاطئ تمامًا! بما أن تواصلي مع التليفزيون والمنتج لإذاعة المسلسل قد انقطع تقريبًا، فمن الآن فصاعدًا سأُشير إلى العيوب الموجودة في الحلقات وما حُذف منها بالطبع. أتوجه بالاعتذار إلى متابعي المسلسل وأبناء وطننا الأم الأعزاء على هذا التساهل والقصور.
وقال في الرسالة الثانية:
أسوأ دُبلاج ومكساج!! مثلما أشرتُ آنفًا، فإن منتج مسلسل (الوطن الأم) ومركز العروض السينمائية بالتليفزيون في خطوة مشتركة يقومان بإذاعة الموسم الثاني من العمل بعجالة لا يمكن تصورها، وبأسوأ شكل ممكن!! كما أنهما للأسف قطعا الاتصال معي لإصلاح عيوب المسلسل، لا أعرفُ لمَ؟! ربما يتصوران أنهما ليسا في حاجة إلى آراء المخرج!
لما شاهدتُ الحلقة الرابعة من الموسم الثاني، تنهدتُ من قلبي، وأدركتُ أنه مسلسل يتيم؛ لا رب له، وأن تعب هذه السنوات وكُلفتها يضيع هدرًا. يمكنكم الاستماع إلى عزف آلة الناي من المذياع مثلًا إلى أن تبدأ الموسيقى التصويرية، وينتهي عزف الناي، لكن مع انتهاء الموسيقى التصويرية، يُكرر فجأة عزف آلة الناي دون أي سبب وبطريقة بشعة. أكادُ أجزم بأنه لم ينتبه أحد إلى اقتراف هذا الخطأ الواضح بسبب التسرع، أو ربما تصور المنتج ومركز العروض السينمائية أن الأمر أفضل على هذا النحو!
يا لها من خسارة أن يلقى المسلسل في النهاية هذا المصير! مع كامل الأسف ومن المتوقع بشكل كبير أنه علينا أن ننتظر الأخطاء (الفادحة) التالية!
بعد انتقادات السيد “تبريزي” المتعلقة بتقنيات العمل الفنية والبعيدة عما أُثير حول أحداث المسلسل من لغطٍ، نشرت العلاقات العامة بمركز العروض السينمائية يوم الأحد 28 يناير 2024 بيانًا يدافع عن نهج التليفزيون في إذاعة المسلسل، جاء في جزء منه: “إن عرض مسلسل على شاشة التليفزيون بعد توقف 10 سنوات يدل على مساعي ممنهجة لرفع المعوقات الحائلة أمام إذاعته؛ بداية من متابعات ميدانية فعالة حتى كسب ثقة (الأقوام البختيارية) وتهيئة أجواء الإذاعة. كل هذا برهان على إرادة الإعلام الوطني وإدارة العروض السينمائية الجادة للاستعانة بكل الإمكانيات في هذا الصدد”.
من إسقاط العمامة إلى الإطاحة بصاحب العباءة
بعد مرور ما يزيد عن 4 أشهر على إذاعة الموسم الثاني من مسلسل “الوطن الأم”، لم ينجح في جذب انتباه المشاهدين في إيران أو يحظ بمتابعتهم على غرار غيره من أعمال درامية انتجها التليفزيون الإيراني وحققت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا. كما لم يظهر خبر عن ترحاب الإيرانيين به سوى انتقادات المخرج “كمال تبريزي” وبعض النقاد الفنيين حول جودة المسلسل، لكن ما جعل اسم العمل يتصدر مواقع التواصل الاجتماعي حاليًا؛ هو المشهد الذي تداوله رواد هذه المواقع بشكل واسع، ويظهر فيه رجال الأمن الإيراني وهم يلقون بطلاب العلوم الدينية من أعلى مبنى “المدرسة الفيضية” في مدينة قُم.
جزء من تفاعلات المتابعين بهذا المشهد يُسلط الضوء على الجوانب التاريخية والمبالغة في إبراز عنف رجال الأمن وأعداد القتلى والجرحى في هذا اليوم، والجزء الآخر من تفاعلات المتابعين يُظهِر ترحابهم بهذه الواقعة.
وفقًا لأحداث “الوطن الأم”، فإن هذا المسلسل يروي حِقبة من تاريخ الثورة الإيرانية، لكنه منح دورًا بارزًا لرجال الدين والقوى الدينية باعتبارهم مَن ثاروا ضد النظام البهلوي، وصوَّر حادثة هجوم قوات الأمن على “المدرسة الفيضية” بشكل مبالغ فيه يتجاوز الوثائق والمستندات المتعلقة بهذه الحادثة بنحو لا يمكن أن يصدقه أو يقبله جمهور اليوم.
بعد مرور 60 عامًا على حادثة “المدرسة الفيضية”، انخفضت شعبية رجال الدين في إيران بشكل كبير، وشاهدنا على مدار السنوات الأخيرة حملات احتجاجية عديدة ضد النظام الثيوقراطي في البلاد؛ كان أخرها حمله “إسقاط العمامة” أو “تطيير العمامة” المعروفة باسم “عمامهپرانی” من فوق رؤوس رجال الدين الإيرانيين، حيث تداول رواد وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة يظهر فيها إيرانيون وهم يسقطون العمائم من فوق رؤوس رجال الدين في الشوارع والأماكن العامة ووسائل المواصلات في مختلف المدن الإيرانية.
“إسقاط العمامة” حملة احتجاجية تهدف إلى إبراز الكراهية تجاه رجال الدين الإيرانيين والاشمئزاز منهم والحط من شأنهم. وكانت هذه الحملة قد انطلقت بالتزامن مع حركة “امرأة، حياة، حرية (زن، زندگی، آزادى)” على خلفية مقتل الفتاة الإيرانية كُردية الأصل “مَهسا أميني” البالغة من العمر 22 سنة في 16 سبتمبر 2022، وذلك عقب اعتقالها على يد شرطة الأخلاق المعروفة باسم “دورية التوجيه (گشت ارشاد)” بتهمة ارتداء الحجاب بطريقة “غير مثالية”، وتعرضها لضرب مبرح على أيدي رجال الشرطة أدى إلى إصابتها بسكتة دماغية أودت بحياتها.
العجيب في الأمر أن حملة “إسقاط العمامة” كان أول من نادى بها قبل الثورة هو “الخُميني”، حيث أطلق في خُطبه على رجال الدين المواليين للشاه “شيوخ البلاط” و”الشيوخ الفاسدين”، وطالب بخلع العمائم عن رؤوسهم.
الآن يحظى مشهد إلقاء رجال الدين من أعلى مبنى “المدرسة الفيضية” في مسلسل “الوطن الأم” بإعجاب رواد مواقع التواصل الاجتماعي، ويأملون أن يحدث ذلك في المستقبل.
كتب الناشط السياسي “محمد مهدوي فر” الذي شارك في الحرب الإيرانية العراقية، عبر قناته الشخصية على تطبيق “تيليجرام”: “كانت الجمهورية الإسلامية تتوقع تعاطف الشعب الإيراني مع عرض هذا المشهد، لكن يبدو أن حسابات المخرج والجمهورية الإسلامية كانت خاطئة، لأن الشعب الإيراني شرع سريعًا في تعديل المشهد، وركب عليه موسيقى تصويرية مبهجة، وأعلن الجميع أنهم ليسوا سعداء بمشاهدة هذا المشهد فحسب، بل يتمنون حدوثه على أرض الواقع”.
وكتب بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي: “بدلًا من إلقاء رجال الدين من أعلى المبنى، سنرميهم في البحر”، وأشاروا إلى حديث المرجع الشيعي “عبد الله جوادي الآملي” في أبريل 2018 حينما قال: “لو ثارت الأمة سيرمينا الجميع في البحر، مما لا شك فيه أن الكثيرين سيفرون من البلاد، أو حددوا أماكن هروبهم، لكننا ليس لدينا مكان نفر إليه”. إن جور بعض المسؤولين وعدم كفاءتهم لا يمكن تحمله، لمَ يوجد كل هؤلاء الجياع في بلد يمتلك كل هذه الموارد والمياه والأراضي؟”. وكان حديث “الآملي” يُشير وقتها إلى الفساد المالي والإداري المتفشي في مفاصل الحكومة الإيرانية.
كما كتب المحلن والمطرب الإيراني المخضرم “حسن شماعي زاده” المقيم حاليًا بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية عبر صفحة الشخصية في منصة “إكس” مخاطبًا النظام الإيراني: “كل مساعي مسلسل (الوطن الأم) هو تشويه الحكومة السابقة فقط، ألهذا الحد قد طغيتم حتى تبذلوا كل ما بوسعكم لتشويه حكومة الشاه؟ إن مقارنة نظام الشاه بنظامكم تجعل من الشاه ملاكًا، ومنكم باغين على أبناء هذه الوطن وسافِكي دمائهم وقاتليهم وسامِلي أعينهم”.
حادثة المدرسة الفيضية: أسبابها ومُجرياتها
في 26 يناير 1963 صوت الشعب الإيراني بالموافقة على حزمة إصلاحات اقتصادية واجتماعية تتضمن 12 بندًا، كان الشاه “محمد رضا بهلوي” قد تقدم بها كمقترح في 11 من الشهر نفسه إلى “المؤتمر الوطني للمزارعين” بطهران. وقد أُطلق على هذا البرنامج الإصلاحي اسم “الثورة البيضاء (انقلاب سفيد)” أو “ثورة الملك والشعب (انقلاب شاه و مردم)” كونها ثورة سلمية لم تُرِق فيها قطرة دماء واحدة، وكان الشاه يهدف منها تحديث إيران وإلحاقها بركب التطور والتنمية.
كان من أبرز هذه الإصلاحات:
تعديل نظام ملكية الأراضي الزراعية وإلغاء النظام الإقطاعي، تأميم الغابات والمراتع والمياه الإقليمية، بيع أسهم المصانع الحكومية، مشاركة العمال في أرباح المصانع، تعديل قانون الانتخابات الإيراني بشكل يمنح المرأة حق التصويب في الانتخابات والحقوق السياسية كافة مساواة بالرجل، تشكيل “لواء العلم (سپاه دانش)” في سبيل محو الأمية ونشر المعرفة في الأرياف والمناطق النائية، تطوير المدن والقُرى وتحديثها، محاربة التضخم والغلاء، مواجهة الفساد والرشوة، توفير التأمين الاجتماعي لكل أفراد الشعب الإيراني.
كان بعض من رجال الدين الإيرانيين في مقدمتهم “الخُميني” يرون أن برنامج “الثورة البيضاء” يتضمن بنودًا تتعارض مع أصول الشريعة الإسلامية كمنح المرأة حق التصويت في الانتخابات، لذا اعتبر “الخُميني” عملية التصويت على الإصلاحات في حد ذاتها غير شرعية، وحرَّمها، وكتب في الأول من مارس عام 1963 رسالة إلى الشاه، يعارض فيها منح المرأة حق التصويب في الانتخابات، ويعتبره أمرًا يخالف أصول القرآن والإسلام.
على الجانب الآخر مثلت “الثورة البيضاء” صفعة قوية على وجوه الأقطاعين الذين باتوا مهددين بنزع ملكياتهم من الأراضي الزراعية، لذا اتسع نطاق المعارضة ليشمل فئات أخرى من الإيرانيين غير رجال الدين، فسرعان ما انضم إليهم المُلاك والتُجار والصُناع وطُلاب الجامعات والمعاهد الدينية على خلفية دعاية رجال الدين المنددة بالإصلاحات الملكية.
تعتبر “الثورة البيضاء” الصدام الأول بين الشاه ورجال الدين أو بالأحرى بين “الشاه والخُميني”، فقد أعلن الأخير في نيروز 1963 –بداية السنة الشمسية في إيران– الحداد العام، وأصدر طلاب العلوم الدينية في مدينة قُم بيانًا يطلبون فيه من الشعب الإيراني التجمع في “المدسة الفيضية” يوم 22 مارس الموافق 25 شوال ذكرى وفاة الإمام السادس لدي الشيعة الاثني عشرية “جعفر الصادق”، اعتراضًا على برنامج “الثورة البيضاء”، فهاجمت قوات الأمن جموع المشاركين في مراسم الحداد العام بالمدرسة.
وتعد “المدرسة الفيضية” إحدى أهم مدارس الحوزة العلمية في محافظة ومدينة قُم، ومركز تعاليم الفقه الشيعي الاثني عشر الرئيس في إيران بعد النجف “الأشرف” في العراق، كما أنها من أقدم المدارس الدينية في البلاد، حيث يعود تاريخ تأسيسها إلى العصر الصفوي. سُميت هذه المدرسة بـ “الفيضية” نسبة إلى الفقيه والمُحدث الشيعي الكبير “محمد مُحسن بن مُرتضى” الشهير بالشيخ “مُحسن فيض الكاشاني” الذي عاش في مدينة قُم إبان العصر الصفوي.
قيل إن حادثة “المدرسة الفيضية” شهدت إضرام النار في الكتب العلوم الدينية وعمائم الطلبة وإطلاق الرصاص على الطلاب والمتجمهرين في المدرسة، لكن تعداد القتلى والمصابين يظل تساؤلًا مبهمًا حتى كتابة هذه السطور..
وقد سعت وسائل الاعلام المقربة من النظام الإيراني إلى تضخيم هذا العدد، فزعمت صحيفة “كيهان” في 19 مارس 2023 نقلًا عن صحف أجنبية “أن عدد القتلى 45 شخصًا، وهناك جرحى كثيرين لم ينقلوا إلى المستشفيات، وأكثر من 300 شخص أودعوا السجون، ولم يُعلم مصائرهم. هذا هو حال الدولة التقدمية.. هذا هو معيار ديمقراطية الشاه.. هذا هو حال بلد الرجال الأحرار والنساء الحرائر”.
وبعيدًا عن المبالغات المتداولة حول حادثة “المدرسة الفيضية”، فجميع المصادر الرسمية تقريبًا تقول إنه لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد المقتولين والمصابين، حيث أعلنت “منظمة المخابرات والأمن القومي” في زمان الشاه المعروفة اختصارًا باسم “السافاك” بعد مرور 9 أيام على هذه الحادثة في 31 مارس بشكل واضح خلال تقرير، نشر صورةً منه الموقع الإعلامي والإخباري “جماران” التابع لمؤسسة تنظيم ونشر تراث الخُميني، أن ضحايا هذه الحادثة قتيل واحد وعدة جرحى. كما أعلن “مركز وثائق الثورة الإسلامية” أن عدد القتلى شخص واحد.
وكانت أحد المصادر قد كتبت نقلًا عن بيان المرجع الشيعي “شهاب الدين مرعشي النجفي”، بعد شهر واحد من وقع هذه الحادثة: “أنه على الرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة عن ضحايا هذه الحادثة المفجعة، لكن من المؤكد أن هناك عددًا كبيرًا من طلاب العلوم الدينية مصابون ومفقودون، فوفقًا للإحصاء الصحيح المدرج في مكتب وضيع منعزل، هناك 95 شخصًا مصابًا، وجاري التحقيق معهم، وبعض منهم لا يزالون خاضعين للعلاج”.
كما أكد “الخُميني” في بيان له بعد مرور 40 يومًا على هذه الحادثة، أن آثار الكدمات والإصابات لا تزال ظاهرة على أجساد من نُكل بهم، لكن عدد القتلى مجهول.
وكان الفقيه “عليّ أصغر مرواريد” الشخصية البارزة في الحوزة العلمية والمقربة من “الخُميني” قد ذكر باعتباره شاهد عيان على حادثة “المدرسة الفيضية” في مقطع مصور نشره الصحفي والباحث التاريخي المستقل “عبد الله عبدي” عبر قناته الرسمية “عبدي ميديا” AbdiMedia على تطبيق “تيليجرام”، أن المدرسة الفيضية لم تسجل أية حادثة قتل.
وعلى الجانب الآخر ينفي “پرویز معتمد” أحد قوات “السافاك التي قامت بمهاجمة “المدرسة الفيضية”، وقوع أية حوادث قتل أو قذف من أعلى سطح المدرسة، حيث يقول في هذا الصدد:
“نحن ضربنا الطلاب فقط، ولم نفعل شيئًا آخر سوى الضرب والسب. كنا نذهب إلى الحُجرات، ونخرج الطلاب منها، ونجرهم ونحن نقفوهم، ونلكمهم، ونركلهم، ونضربهم بالهراوات، وننهال عليهم بالسب والقذف. أعتقدُ أنه اُعتقل ما بين 10 إلى 12 شخصًا، وأُرسلوا إلى طهران، وهناك عدد آخر في قُم وقعوا تعهدًا وأُخلي سبيلهم عقب إجراء التحقيقات الأولية معهم. هؤلاء الطلاب لم يكن لهم تنظيم أو تشكيل، ولم يكن بحوزتهم حتى سكين، لذا اقتصر التعامل معهم على سافاك قُم فحسب، واُقتيدوا إلى سجن (قِزل قلعة) في طهران”.
بعيدًا عن كل ما جاء في بيانات وشهادات التيار الموالي للخُميني والتيار الموالي للشاه، حول ما جرى في حادثة “المدرسة الفيضية” وما ترتب عليها من وقائع وأحداث، يُعتبر مسلسل “الوطن الأم” محاولة بائسة من النظام الإيراني في سبيل تجميل وجهه الدميم ورفع شعبيته الآخذة في الانخفاض على خلفية سنوات متتالية من المظاهرات المنددة بالنظام الثيوقراطي في البلاد والمطالبة بزواله، وكأن الحكومة الإيرانية راحت تتفقد دفاترها القديمة بحثًا عن عمل يجتمع حوله الشعب على قلب رجل واحد ويثير حسه الوطني تجاه ثورة كان مَن قاموا بها وآمنوا بمبادئها وضحوا بأرواحهم في سبيل الدفاع عنها، يأملون أن تُحقق لهم العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، فباتوا يعيشون في ضنكٍ وقيدٍ وجورٍ.
مسلسل “الوطن الأم” أُنتج منذ 10 سنوات، وخلالها شهدت إيران موجات احتجاجية عاصفة ضربت أركان الدولة الإيرانية، وكادت أن تُهوِّي بها من برجها العاجي؛ مظاهرات “الحركة الخضراء (جُنبِش سبز)” عام 2009، احتجاجات عامي 2017/ 2018 ضد الغلاء والفساد الاقتصادي، احتجاجات عام 2019 ضد ارتفاع أسعار البنزين، احتجاجات عام 2020 في أعقاب سقوط الطائرة الأوكرانية (بوينج 737) ومصرع ركابها كافة بعدما ضربها صاروخ أطلقه الحرس الثوري خطئًا، مظاهرات “امرأة، حياة، حرية” المنددة بمقتل الفتاة “مَهسا أميني” على أيدي “شرطة الأخلاق” عامي 2022/ 2023.
هل هذا الحراك الثوري الممتد قُرابة 14 عامًا، وما أسفر عنه من تنكيل بالمتظاهرين وزج بهم في السجون وتفنن في تعذيبهم وقتلهم، يمكن أن يطمس آثاره عمل فني، يُحرِّف تاريخًا لا يزال معاصروه على قيد الحياة؟ هل يستطيع عمل فني أن يُبيِّض وجهًا مغبرًا بسواد الجور والتجبُّر والطغيان؟ هل تستطيع الخيالات أن تُغيِّر الحقيقة الماثلة أمام الجميع أو تمحي ضوء شمس ساطع يغشي العيون؟
الدراما التاريخية بين الواقع والخيال
تثير الدراما التاريخية دائمًا إشكالية معقدة، يدور حولها جدال ونقاش سرمدي بين صُناع العمل الفني ونقاد التاريخ؛ فهل يُقدم التاريخ كما هو حقيقة مجردة، أم يخضع لخيال المبدع ورؤيته الشخصية؟ يسوق الطرفان العديد من الحُجَّج يدحض بها حُجَّج الآخر، وقد تستمع إلى قول الأول، فتصدق عليه، ثم تستمع إلى قول الثاني، فتفند ما آمنت به!
على أية حال العمل الفني ليس ثبتًا تاريخيًا مُدرج به تواريخ وأرقام ووقائع وأحداث؛ فهو حالة إبداعية خاصة تخاطب وجدان الإنسان وتدغدغ مشاعره وتراقص أحلامه وتداعب خياله، قد تكون واقعية أو خيالية أو مزيجًا من الاثنين.
مما لا شك فيه أن العمل الفني يخضع لرؤية مبدعيه وتوجهاتهم الفكرية والعقائدية والسياسية، والتاريخ نفسه في فترات عديدة سابقة وآنية وقادمة عندما تُسطره الأقلام، يخضع لأهواء أصحابها وآمري أصحابها، والحديث في هذا الأمر طويل طول الأجل.
إن الحقائق التاريخية لا تُستقى من أعمال درامية تروي التاريخ أو تستلهم وقائع منه، وتخلع عليها ثوبًا فنيًا أنيقًا منمق التفاصيل؛ قد يراه البعض جميلًا، وقد يراه البعض الآخر متكلفًا فجًا، لكن الحقائق تُستقى مما سُطر في الصحائف المشهورة والمغمورة، ومما تمخض عنه مقايسة المُتشابهات ودرء الشُبهات، وقبل كل هذا إعمال العقل والتدبُّر فيما يُقرأ، ويُسمع، ويُقال..
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر