لا يبدو أن التصعيد الأخير بين أذربيجان وأرمينيا سيكون ضمن حدوده الجغرافية هذه المرة، فقد جاء التصعيد في وقته المناسب لكل من روسيا وتركيا؛ من أجل إعادة ترتيب أوراقهم في الملفات المشتركة “الحاسمة”، وبالأخص أنقرة التي باتت في مربع “ضيق” مأزوم في ليبيا إثر انخفاض وتيرة تصعيدها بمقابل تحرك عربي بدعم روسي فرنسي، و ليأتي تجدد الأزمة في جنوب القوقاز كأمر قد يرغب به الرئيس التركي (اللعب في مساحات عشوائية) رغم أنه لا يجيده.
لقد كان التدخل التركي في ليبيا ورقة جديدة أراد امتلاكها أردوغان في خضم التنافس مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تقاسم النفوذ في الملف السوري، فإستطاع كسب جولة لمصلحة المشروع الإقليمي لحزب العدالة والتنمية التركي هناك، غير أن زاوية التقدم باتت مكسورة، و صارت الحديقة الخلفية للملف السوري (ليبيا) تحتاج إلى مساحة أخرى تُعدّل الموازين وفق الرؤية التركية.
جذور تاريخية
يقع إقليم ناغورني قره باغ جغرافياً داخل أذربيجان، لكن بغالبية سكانية ساحقة من الأرمن، و في عام 1992 توغلت قوات أرمينيا إليه، لدعم الأرمن هناك في حرب أعلنوا بعدها إقليمهم دولة لا تحظى بأي اعتراف، وفي المقابل تتمتع ناخيتشيفان بحكم ذاتي منفصل جغرافياً عن باقي أذربيجان، متصل بها سياسياً.
يعد إقليم قره باغ واحدا من أقل النزاعات مناقشة على الصعيد العالمي وأكثرها صعوبة في نفس الوقت. ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار الموقع عام 1994، أشرفت روسيا وفرنسا والولايات المتحدة على جهود الوساطة الدولية، غير أن هذه الجهود لم تكن لتثمر حلاً ملموساً ونهائياً.
كانت كل القوى المتدخلة في تلك المسألة لها تأثير ومصالح متداخلة عبرها، حاولت الاستفادة منها والتفاوض مع الأطراف حول مشكلة الإقليم، ولهذا السبب، تم تعريف هذه الأزمة بأنها “المشكلة المجمدة”، والتي كانت آخر جولاتها في نيسان 2016؛ وأفضت إلى توقيع اتفاق جديد لوقف إطلاق النار بعد اندلاع مواجهات حدودية دامية في تلك الفترة. بمقابل ذلك دعمت تركيا أذربيجان وتقف إلى جانبها بمقابل الاعتقاد منها أن ذلك يمثل مواجهة لروسيا التي تؤيد الحق الأرميني في قره باغ.
مناورة تركية
في مطلع شباط الماضي، وفي مُستهل زيارته إلى العاصمة الأوكرانية، حيّا أردوغان ثلة من حرس الشرف الذين أصطفوا لإستقباله بعبارة نشأت كتحية في وسط القوميين الأوكرانيين المناهضين لروسيا، حيث توقف أمام الحرس وقال لهم “المجد لأوكرانيا” ليردوا عليه “للأبطال المجد”. هذه التحية كانت قد انتشرت إبان الحرب العالمية الثانية بعد أن اعتمدتها “حركة القوميين الأوكرانيين” ثم “جيش التمرد الأوكراني” المنبثق عنها.
تلك كانت مناورة بات أسلوبها معروفاً من قبل أردوغان؛ ولكن الماضي القريب يؤكد فشلها، فحينما زار الرئيس التركي أوكرانيا كان ينوي من خلال تلك الزيارة استفزاز موسكو وتوجيه رسائل سياسية تصعيدية ضدها، وذلك على وقع التوتر المتصاعد الذي تزايد في الشمال السوري -آنذاك- إثر الحملة العسكرية الروسية هناك، فكانت النتيجة أن أحكمت فيما بعد موسكو سيطرتها بشكل كامل على الطريق الدولي 5M، عبر اتفاق موسكو الموقع في مطلع آذار الماضي، حيث أسست من خلالها روسيا لبداية مسار ينتهي بالسيطرة على الطريق الدولي 4M وصولا إلى معبر باب الهوى (منفذ المساعدات الإنسانية الوحيد إلى سوريا).
لقد أدان الرئيس التركي ووزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو، يوم الثلاثاء، هجمات أرمينيا، ودعياها لاحترام القانون الدولي ومغادرة الأراضي التي تسيطر عليها؛ وفق تعبيرهما. كما شددا على وقوفهما بشدة وبكافة الإمكانيات المتاحة إلى جانب أذربيجان في كافة الوسائل التي ستلجأ لها لـ “تحرير أراضيها”. لم يكتف الرئيس التركي بهذا التصريح المباشر، بل استغل حدث الانتخابات البرلمانية الذي أقامته حكومة دمشق، ليؤكد لموسكو قبل دمشق أن بقاء القوات التركية على الأرض السورية هو فقط من يحدده، ولن تستطيع روسيا أن تثني عزم استراتيجية حزبه التمدد جنوب حدود الدولة التركية، وفق ما يمكن قراءته من تصريحه الأخير.
أثبتت تلك المناورة فشلها (لم تكن الأولى) حينما زار أردوغان أوكرانيا، وها هي المناورة التركية تتاح لها الظروف لإعادة إنتاج نفسها في أزمة إقليم قره باغ المتجددة، في ظل بوادر تعطيل أي تقدم تركي في ليبيا، واستمرار الجمود في الملف السوري، رغم أنه يبدو بأن عوامل التسخين هناك قد ترتقي لتصعيد عسكري في الشمال السوري تصل من خلاله موسكو ودمشق إلى معبر باب الهوى (على الحدود مع تركيا) وإكمال السيطرة على المناطق المحيطة بـ4 M (جنوب غرب إدلب وشمال اللاذقية).
دور أوروبي؟
فرنسا التي كانت قد لعبت دور الوسيط إلى جانب روسيا وكذلك الولايات المتحدة أيضاً في ملف “المشكلة المجمدة”، يبدو أن ولو أنها لن تتدخل بشكل مباشر في هذا الملف، لكنها ستجد الفرصة سانحة لدعم أي موقف روسي ما دام يجابه الموقف التركي، ذلك قد يكون مدفوعا بتعمق هوة الخلافات بين باريس وأنقرة، لعلها أشدها كان بسبب ليبيا؛ رغم أنه ليس الملف الوحيد.
نهاية الشهر الفائت، وبالتزامن مع التوترات التركية-الروسية في الملف الليبي والتبعات السلبية بسببه على الشأن السوري، أجرى كل من الرئيس الروسي ونظيره الفرنسي اجتماعاً افتراضياً على شبكة الإنترنت حول العديد من الملفات المشتركة بين الجانبين. فاقترح الأخير مواصلة العمل حسب الأجندة التي تم تحديدها في الاجتماع بينهما في شهر آب من العام الماضي، مشيرا إلى ثلاثة أهداف رئيسية في هذا السبيل، وهي تهيئة الظروف الملائمة للحوار الثنائي ومتعدد الأطراف في مجال الأمن، وإدراج ملفات الأزمات الإقليمية، بينها ليبيا وأوكرانيا وسوريا، على الأجندة، ويبدو أن ملف “المشكلة المجمدة” جنوب القوقاز سيكون حاضرا في وقت لاحق، فضلا عن التعاون طويل الأمد في مجال الرعاية الصحية والاقتصاد.
ويبدو أن الملف الليبي عمل على تقريب المواقف أكثر بين بوتين وماكرون لا سيما في سوريا. يأتي ذلك بعدما حذر ماكرون، في حزيران الفائت من “اللعبة الخطيرة” التي تمارسها تركيا في ليبيا، مؤكداً بأن “تدخل أردوغان في ليبيا لا يجب أن يحصل.. تركيا تلعب لعبة خطيرة وتخرق فيها كل الالتزامات التي تعهدت بها في برلين”.
لقد بات تغير الموقف الفرنسي تجاه عدة مسائل في الملف السوري واقترابه مع الرؤية الروسية، أمراً ملموساً خلال الفترة الماضية، لتزداد فرص التقارب أكثر في ظل وجود مشتركات بين الجانبين وعوامل التقاء متعددة؛ قد يكون في مقدمتها خلاف الرئاسات الفرنسية-التركية، فرغم محدودية التأثير الأوروبي/الفرنسي في الملف السوري خلال المرحلة الماضية، بمقابل تدخل رباعي (أميركي روسي إيراني تركي)، إلا أن ذلك لا يعني غياب هذا الدور مطلقاً، والذي قد يتعزز بعد تخطي حاجز فيروس “كورونا المستجد”.
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لــ “رياليست”