تعتبر التوليفة المجتمعية في إثيوبيا، توليفة نادرة ومعقدة حيث تتعدد القوميات داخل المجتمع الإثيوبي لتصل إلى أكثر من 84 قومية مختلفة أيديولوجياً وإن اختلفت في التعداد السكاني، إلا أن هذا التعدد جعل من المجتمع الذي يقوم على نظام المحاصصة مجتمع لا يتمتع بالإندماج الوطني، وهشّاً لدرجة تجعله قابل للإنقسام والإشتعال في أي لحظة.
وتسيطر على الواجهة السياسية للدولة القوميات الثلاث الكبار وهي الأورومو التي يبلغ تعدادها حوالي 40%من السكان، البالغ عددهم حوالي 110 مليون نسمة، ثم الأمهرا والتي يبلغ تعدادها حوالي 25% من السكان ثم التيغراي واليت يبلغ تعدادها حوالي 6% من السكان، في ظل دولة فيدرالية تأسست بناءً على دستور 1994، وفي ظل حكومة برلمانية مكونة من أربعة أحزاب منبثقة من أربع حركات تحرر تمثل قوميات الأرورمو والأمهرا والتيغراي والشعوب الجنوبية تحت مسمى الجبهة الثورية الشعبية الديمقراطية والتي تحكم البلاد منذ 1991.
سارت إثيوبيا الحديثة منذ تأسيسها على يد منليك الثاني (1889- 1913) تحت سيطرة قومية الأمهرا حتى عهد “منغستو هيلا مريام” والذي أطيح به في 1991 بكفاح مؤثر من جبهة تحرير التيغراي والتي سيطرت على مقاليد الحكم في الدولة وجمعت في يدها مفاتيح الدولة، وقصرت تولي الوظائف العامة الرئيسة والمؤثرة على أبناء جلدتها وذلك حتى قيام التظاهرات الشعبية التي انطلقت من داخل إقليم أوروميا ثم انتشرت في أكثر من منطقة أخرى بسبب مصادرة الأراضي من مالكيها في عهد هايلي مريام ديسالين في 2018 الذي نزل على رغبة الشعب تاركاً الحكم ليتولاه العقيد الدكتور آبي أحمد ابن قومية الأورومو والأمهري بحسب (قومية والدته) ممثلاً بداية عهد جديد لقومية مختلفة وصفحة جديدة من صفحات تاريخ الصراع الساخن دوماً.
جذور الخلاف
أولاً، عانت قومية التيغراي منذ تركها السلطة، من الاضطهاد والعزل التعسفي من الوظائف ومحاكمات فاسدة وإلصاق كل ما تعانيه الدولة من أمراض الفقر والجهل بفترة حكمهم، وأن إدارتهم للدولة هي السبب الرئيسي في جلّ مشاكل الدولة ومعاناة الشعب، ومن البديهي أن يعمق ذلك الإحساس هوة الخلاف والإختلاف ويوأد أي محاولة لتحقيق الإندماج الوطني.
ثانياً، في عام 2019 سعى رئيس الوزراء آبي أحمد إلى ضم الأحزاب الأربعة المكونة للجبهة الحاكمة في حزب واحد وتحت رئاسته، تحت مسمى حزب الازدهار، لكن رفضت جبهة تحرير التيغراي الانضمام إلى ذلك الحزب معللة ذلك بأن ما يفعله آبي أحمد هو محاولة ديكتاتورية لجمع كافة خيوط العملية السياسية في يده منفرداً.
ثالثاً، في العام نفسه وفي شهر سبتمبر/ أيلول منه كان موعد استحقاق الانتخابات البرلمانية والتي حلت في وقت كان آبي أحمد يعاني من مشاكل داخلية كثيرة، فلجأ إلى تأجيل الانتخابات إلى أجلٍ غير مسمى، متذرعاً بانتشار جائحة “كورونا” في البلاد والعالم بأثره، وقد عارضت جبهة تحرير التيغراي ذلك بشدة، واعتبرت قرار أحمد خرقاً للدستور، وأصرت على قيامها في موعدها، كما عارض هذا الأمر الكثير من السياسيين البارزين الذين أصبحوا رهن الاعتقال والمحاكمات مثل أيقونة ثورة الأورومو جوهر محمد والذي كان الساعد الأيمن لآبي أحمد حتى بزغ نجمه.
رابعاً، أقام إقليم التيغراي الإنتخابات البرلمانية في موعدها داخل الإقليم وشكل حكومته، لكن الحكومة الفيدرالية كان لها رأي آخر، فلم تعترف بهذه الانتخابات واعتبرتها غير مشروعة، وكذلك اعتبرت حكومة إقليم التيغراي أن آبي أحمد أصبح يفتقد للشرعية بحكم انتهاء ولايته في سبتمبر/ أيلول 2019 ، وأرسلت نداءات لكافة المنظمات الدولية للتدخل والتوسط بينها وبين النظام في أديس أبابا لرفع ما وقع ويقع عليها من اضطهاد واستهداف عرقي، إلا أن جل نداءاتها ذهبت أدراج الرياح.
خامساً، في مطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي إدعت الحكومة الفيدرالية أن بعض العناصر التيغرانية المسلحة اقتحمت مقر القيادة الشمالية العسكرية الفيدرالية الواقعة داخل إقليم تيغراي ورغم رد جبرا ميكائيل رئيس الإقليم، أن أفراد القيادة الشمالية هم الذين انضموا إليهم طواعية، إلا أن آبي أحمد اعتبر ذلك تجاوزاً للخط الأحمر وأعلن الحرب على حكومة الإقليم، واستعرت الحرب وسقط المدنيون وسالت الدماء لتسطر صفحة جديدة من الشقاق وتعمق الجروح الغائرة التي بات من الصعب الحديث عن إلتئامها.
مآلات الصراع
أولاً، تنقسم قومية التيغراي بين إثيوبيا وإريتريا حيث ينتمي إليها حاكم أسمرة أسياس أفورقي نفسه إلى تلك القومية، وهذا أمر بات يمثل خطراً كبيراً حال تطور الحرب أو استمرارها، حيث من الممكن أن تتحارب تيغراي الإريترية مع نظيرتها الإثيوبية لتنتقل أتون المعارك إلى الأراضي الإريترية، وهذا ما يخيف أسمرة حيث من الجائز أن تلتأم القومية في الدولتين مطالبة بالانفصال وقيام دولة تيغراي.
ثانياً، هناك أقاليم إثيوبية ساخنة بطبيعة الأمر، لعل أهمها إقليم أوجادين الصومالي والذي يعاني من اضطهاد يراه بعض المحللين مؤهل قوي لقيام حرب أهلية، وقد سبق أن دار الصراع مع الحكومة الفيدرالية وسقط على إثره قتلى من الصوماليين، وكذلك ما حدث من أيام قليلة من استهداف حافلة في إقليم بني شنقول والتي قضى على إثرها أكثر من 40 قتيل، كذلك هذا الإقليم بالذات من السهل أن ينتقل الصراع إليه بسبب وجود أعداد كبيرة من التيغرانيين والأمهرا فيه.
ثالثاً، تعتبر منطقة شرق السودان، خاصة ولاية القضارف السودانية مرشحة بقوة للانفجار إذا لم يتم التوصل لحل سريع حيث تندفع إلى تلك المنطقة آلاف الفارين من الحرب ومنهم المسلحون الذين قد يجرون تلك المنطقة إلى الحرب، وامتداد الساحة إليها، كذلك ينعش هذا الأمر الجريمة العابرة للحدود والذي قد تنعكس آثارها على قطع الطريق القومي الذي يربط إثيوبيا بميناء بورسودان.
الموقف الإقليمي والدولي
أولاً، إقليمياً تناوبت الاتصالات بين رئيس الوزراء السوداني الدكتور عبدالله حمدوك ونظيره الإثيوبي حول إيجاد سبل لحلحلة الأزمة، إلا أن رئيس الوزراء الإثيوبي رفض أي شكل من أشكال الوساطة باعتبار أن هذا أمر داخلي، والقانون أقر أن جماعة التيغراي، جماعة مارقة.
ثانياً، كذلك حاولت أوغندا الدخول على خط الأزمة نظراً لما يجمع رئيسها يوري موسيفيني من صداقة مع آبي أحمد، حيث عرض موسيفيني استضافتهم، والمنتظر وصول عناصر من جبهة التيغراي للقاء نائب رئيس الوزراء الإثيوبي ديميكي ميكونين، ويعول الكثيرين على هذا اللقاء لجهة وقف الإقتتال.
ثالثاً، دعا الإتحاد الأفريقي إلى وقف إطلاق النار واحترام حقوق الإنسان، مؤكداً دعمه للحكومة الإثيوبية، و لكن يظل دوره قاصرا ومفتقدا للحيادية وذلك بعد عزله موظفين اثيوبييا لانهم تيجرانيين.
رابعاً، أما الأمم المتحدة، فقد طالبت المفوضية السامية لحقوق الإنسان بتحقيق شامل حول حدوث جرائم حرب وعبرت عن قلقها من إستمرار الاقتتال وتأثيره على المنطقة بأثرها.
أخيراً، قد تنجح الوساطة الأوغندية أو غيرها في جر الأطراف إلى طاولة الحوار، وقد تستطيع القوات الفيدرالية في حسم النزاع لصالحها، إلا أن الجميع لن يستطيع مهما سعى في جبر ما تم من كسر روح المواطنة لدى التيغرانيين الذين لن يلبسوا أن يحاولوا مجدداً السعي نحو الإنفصال.
خاص وكالة “رياليست” – د. ناصر مأمون عيسى – باحث في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط